تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة السيد راشيد الطالبي العلمي رئيس مجلس النواب في افتتاح الندوة الدولية التي ينظمها البرلمان المغربي والجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي

20/04/2016

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أَشْرف المرْسَلين

 

السيد رئيس مجموعة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط بالجمعية البرلمانية للحلف الأطلسي

السيد رئيس مجلس المستشارين

السادة الوزراء

السادة الرؤساء

سعادة السفير

السادة السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي

السيدات والسادة

أود في البداية أن أرحب بكم على أرض المملكة المغربية وأتمنى لكم مقاما طيبا، يُمكنكم من التعرف أكثر على المغرب التي كانت وستظل، أرضا للقاءات والحوار والمبادلات، مُساهِمَةً في بناء الاستقرار الإقليمي والعالمي.

وأود بالخصوص أن أُثْنِيَ على اختيار بلادي لاحتضان فعاليات هذه المناظرة الهامة وأَشْكُرَ رئيس ومسؤوليأجهزة ومجموعات الجمعية البرلمانية لمنظمة حلف شمال الأطلسي على هذا الاختيار.

وأود في بداية هذا اللقاء ان أجدد إدانة مجلس النواب بالمملكة المغربية للعمليات الارهابية التي استهدفت مؤخرا بلدان صديقة ومنها بلجيكا وفرنسا وروسيا وتركيا وبركينافاسو ومالي والمملكة العربية السعودية معربا عن التضامن المطلق مع شعوب وبرلمانات وحكومات هذه البلدان وعن المواساة لاسر الضحايا.  

وما من شك أن اختيار محاور هذه المناظرة، هو اختيار حكيم بالنظر إلى السياق الإقليمي والدولي الراهن، إذ أن العالم لم يَعْش نزاعاتٍ مسلحةً وأزماتٍ بالشكل والحجم والتأثير الذي يشهده اليوم، منذ الحرب الكونية الثانية.

السيدات والسادة

تفرض محاور هذه المناظرة العودة إلى بَعْضٍ مِنَ التاريخ القريب، ولكن الفاصل. فعلى إثر انهيار جدار برلين في نونبر من العام 1989، تسابق الكُتَّابُ السياسيون، وبَعْدَهُم المُنَظِّرون الاستراتيجيون إلى التَّبشِير بميلاد عالم جديد من سماته الأساسية نهايةُ الثنائية القطبية والحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي الديموقراطي، والشرق الشيوعي الكُلْيَانِي أو الشُّمولي، وهبوب رياح الحرية على أرجاء واسعة من الكرة الأرضية وخاصة في أوربا الشرقية. وذهب البعض إلى حد التبشير بنهاية التاريخ،في حين راح عديدون يبررون ويؤسسون لنظرية صراع الحضارات.

وفيما راحت القوى الاقتصادية الكبرى تركز على إعادة البناء الاقتصادي وتوفير أسباب نجاح واستقرار الديمقراطيات الوليدة في وسط وشرق أوربا، تراجعت نزاعات دولية كبرى، وفي مقدمتها الصراع العربي-الاسرائيلي، وجوهره استمرار احتلال الأراضي العربية من طرف إسرائيل، في سُلَّمِ اهتمام المجموعة الدولية وخاصة القوى النافذة في القرار الدولي.

وعلى الرغم مما أطلقه مؤتمر مدريد بشأن السلام في الشرق الأوسط في 1991 وتوقيع اتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام  1993 في واشنطن، من آمال في تحقيق السلام، فإن الواقع على الأرض، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وتكثيف الاستيطان ومصادرة حقوق الشعب الفلسطيني في الأرض والاستقلال والدولة، قَوَّضَ العملية برُمَّتِها وأعاد المنطقة إلى حالة الحرب، فيما أجَّجَ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو وَلَّد نزاعات جديدة واندلعت حروب جديدة (حرب الخليج الثانية والثالثةوما نتج عن ذلك من فوضى في المنطقة ما تزال نتائجها تُقَوِّضُ اليوم الاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي.

وبعد أكثر من عقد من الزمن على ذلك، ستشهد المنطقة تطورات متسارعة وخطيرة، هي اليوم مصدر تهديد للسلم العالمي والأمن الجماعي.

وهكذا تواجه منطقتا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اليوم عدة تحديات، سترهن دون شك مستقبل العالم، وتستمر كمصادر لتهديد الاستقرار العالمي، وسَتُنتج نزاعات وأزمات وبؤر توتر أخرى في مختلف مناطق العالم، مالميتم بناء سياسات دولية لتسويتها.

وما من شك، أن التحدي الأساسي والأبرز والأخطر اليوم هو التحدي الإرهابي، الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال ربطه بدين أو ثقافة أو حضارة بعينها، وهو خطر يتخذ أشكال متعددة ويطور أساليبه واستراتيجياته. والأخطر ما في هذا التحدي هو كونه أصبح متحكما في مجالات ترابية واسعة وأصبحت له أجهزته، وأضحى متحكما في إمكانيات مالية وفي موارد ومصادر تمويل هامة ليس أقلها النفط وتجارة الممنوعات، وبات يُمْسِك بترسانة هامة من الأسلحة، وأصبح له من الشبكات ما يُمَكِّنه من ارتكاب أعمال وحشية تتجاوز حدود الخيال.

وينتعش التحدي الإرهابي من تحدي آخر هو تحدي النزاعات المسلحة وبؤر التوتر، وخاصة تلك التي اندلعت وتلت ما يسمى في لغة الإعلام بالربيع العربي. فقد تحول الأمل في أن تسفر الهَبَّاتُ الاجتماعية التي عرفتها عدة بلدان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن إقامة أنظمة ديمقراطية وأن تحقق الشعوب الكرامة التي رفعتها شعارا مركزيا، تحول هذا الأمل، في عدد من الحالات، إلى دمار ذاتي هائل وشامل، إذ سادت الفوضى، وحالة اللادولة،وتمزقت كيانات وطنية بالكامل، وانتعشت القبلية والطائفية. وقد وجدت الجماعات الإرهابية في هذه الأوضاع المَرتَعَ الخصب، والمناخ الملائم، للنمو والتمدد. ووجدت في التأزم النفسي والاجتماعي للشباب المحبط واليائس، احتياطيا استراتيجيا للتجنيد، وانتهزت فرصَ انهيار مؤسسات الدول لتُخَزِّن مايكفي من الأسلحة لتَخْلُقَ الرعب

هكذا أصبح العالم أمام تحدي إرهابي من طبيعة خاصة،وهو تحدي الجماعات الإرهابية غير التقليدية، جماعات مهيكلة ومنظمة وبمصادر تمويل قوية، بقيادات مركزية وأخرى غير ممركزة، وبخلايا نائمة وبأسلحة متطورة وبِحُرِّية في التنقل في مساحات جغرافية شاسعة، وبقدرة على زرع الرعب وعلى القتل أنا أتيح لها ذلك.

وتزيد التغيرات المناخية من تلوث وجفاف وتصحر وندرة المياه احيانا وفيضانات وانجراف للتربة احيانا اخرى،الاوضاع هشاشة فيما يفاقم الصراع حول المياه كمادة حيوية النزاعات الاقليمية في منطقة شبه جافة ولاتنتج ما يكفيها من منتجات زراعية.   

ومع كامل الأسف فإن هذه التحديات الاستراتيجية، تتغدىوتتظافر مع تحديات أخرى ليس أقلها خطورة تحدي الاتجار في الممنوعات بما في ذلك الاتجار في البشر والأسلحة والمخدرات، من خلال شبكات منظمة عابرة للحدود

وفي لعبة جدلية، ولعبة تبادل الأدوار، يدفع تحدي تفكك الدولة في عدد من البلدان وانهيار مؤسساتها بما في ذلك الجيش وأجهزة الأمن، بالأوضاع إلى المزيد من الانهيارات وتناسل بؤر التوتر.

لقد تسببت هذه الأوضاع في مآسي حقيقية لملايين المدنيين الذين راحوا - وما يزالون - يبحثون عن الأمن وعن سبل البقاء وملاذات آمنة، أي عن الأمل. وهكذا شهدنا على مدى سنتين على الأقل تدفقا هجرويا غير مسبوق من شرق المتوسط وجنوبه نحو أوربا، في عملية هجرة جماعية، وعمليات نزوح ولجوء داخلي وإلى دول الجوار،لم يسجلها الملاحظون ربما منذ الحرب العالمية الثانية. ولست في حاجة إلى تفسير تداعيات كل ذلك على المجتمعات الأوربية ولا إلى إعادة توصيف تلك المشاهد المأساوية للأطفال والنساء والشيوخ وهم يَسْتَجْدون فتح أبواب الأمل أمامهم، بفتح بوابة من تلك البوابات الحديدية والأسلاك الشائكة التي أقامتها عدة دول أوربية لمنع تدفق المهاجرينوانضافت اوضاع هؤلاء الى اوضاع مئات الالاف من المهاجرين من افريقيا جراء النزاعات المسلحة والفقر والجوع وقساوة الطبيعة. وبحكم موقع بلادنا ،فإننا ندرك ونعيش يوميا مأساة هؤلاء بعد أن أصبح  المغرب بلد استقبال ولجوء بعد ان كان بلد عبور.    

إننا مرة أخرى، وكنخب سياسية وكمشرعين ومسؤولينحكوميين، في الشمال كما في الجنوب، أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية إزاء أوضاع ومعاناة ملايين البشر نجمت عن أزمات ونزاعات سياسية وعسكرية، وعجز المجتمع الدولي عن تسويتها بعد أن عجز عن الوقاية منها.

السيدات والسادة،

ما من شك في أن هذه التحديات التي تواجهنا جميعا،تتطلب أجوبة واستراتيجيات مشتركة من أجل ضمان أمننا الجماعي ودرء المخاطر المحدقة بنا. وما من شك أيضا أن جوهر هذه الاستراتيجيات يتمثل في كفالة الاستقرار الذي لابد من أجل استتبابه اعتماد عدة مداخل مشتركة ومُتَشاوَرٍ بشأنها وتتوجه بالأساس، إلى جذور المشكلات ومنشإ هذه الفوضى التي تتمدد كحريق يأتي على كل شيء.

وقبل أن نبحث عن سبل التصدي للتحديات التي ذكرنا وتسوية النزاعات والأزمات، ينبغي بناء سياسات للوقايةمنها وتجنبها بالتصدي لجذورها وأسبابها، واحتواء المشكلات في بدايتها.

ويبقى بناء دول موحدة قوية، قابلة للحياة والاستمرار،تعتمد الديمقراطية والمؤسسات وتكفل التعددية السياسية والثقافية، المدخل الأساس للاستقرار الإقليمي والداخليولكي تكون هذه الديمقراطية قابلة للاستمرار (Durable et Viable) لابد لها من رافعات اقتصادية ومن التنمية والاستثمارات المنتجة لفرص الشغل التي توفر بدورها الدخل الضامن للكرامة البشرية. وما من شك أن ذلك يحتاج في حالة شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى تحويل رؤوس الأموال داخل هذه المنظومة، من الشمال في اتجاه جنوب وشرق المتوسط، وإلى تحويل التكنولوجيا وجعل شعوب المنطقة تستفيد من المكاسب البشرية في مجال التطور التقني والعلمي ومن الرخاء العالميفشعوب المنطقة في حاجة إلى الإحساس بأنها جزء من هذا العالم بمكاسبه وثرواته وتقدمه الهائل.

وإنني على يقين من أننا متفقون على أن الإنسان ينبغي أن يكون في جوهر وهدف هذه الديمقراطية والتنمية.

وفي هذا الصدد يبقى الاستثمار في التعليم والتربية والتكوين باعتبارهم رافعة أساسية ليس فقط للتأهيل للشغل ومن أجل التحديث وتطوير المهارات وجعل الانسان فاعلا أساسيا في التنمية، ولكن أيضا للانفتاح والتربيةعلى الاعتدال واحترام الآخر والاعتقاد في إيجابيات الاختلاف والتعدد، وفي ذلك اشتغال عميق واستراتيجيعلى ذهنيات الناس وبناء الشخصية المتوازنة والمعتدلة وترسيخ القيم الإيجابية من تسامح وإيمان بالديموقراطيةوبالحق في الاختلاف.

وبالموازاة مع ذلك ينبغي اعتماد مقاربات جديدة ورؤى منفتحة لإرساء حوار حضاري وثقافي هادئ، تقوده النخب المثقفة والسياسية والمدنية، وتركز على الاعتراف بالآخر والتخلص من الأحكام الجاهزة ومن تخويف الناس من دين بعينه، واحترام خصوصيات الشعوب وسياقات تطورها، مع عدم التسامح مع الممارسات القمعية والسالبة للحريةولاشك أن للبرلمانات ولوسائل الإعلام وهيئات المجتمع المدني دورا أساسيا في ذلك، كما أن لها دور في محاربة التعصب بكل أنواعه.

وفي المقابل ينبغي التعامل بالحزم والصرامة المطلوبين في درء الإرهاب ومخاطره، والتصدي لممارسيه ومدبريه ومموليه بإجراءات أمنية. وفي هذا الصدد ينبغي تقوية أشكال التعاون والتنسيق بين الأجهزة الأمنية في البلدان المؤمنة بالديمقراطية والاستقرار وبناء استراتيجيات استخباراتية تكون في مستوى خطورة التحدي الإرهابي والأشكال التي يتخذهاوبالتأكيد فإن البرلمانات مطالبة بدعم هذه الخطط بالترخيص بالإنفاق أكثر على قطاع الأمن ليطور أساليب عمله ومهاراته ويقوي موارده البشرية والتقنية كما أنها مطالبة باعتماد التشريعات الضرورية لتجفيف منابع الإرهاب ومصادر تمويله.

السيدات والسادة

علينا أن ندرك أنه لن يكتب لمجموع هذه الخطط والسياسات، النجاح المتوخى، ما لم نعمل، ونؤمن، ونَكْفَلَ (والكلام موجه هنا إلى القوى النافذة في القرار الدولي)،الحفاظ على سيادة الدول ووحدتها الترابية، ودرء مخاطر الانفصال وخطط تفكيك الدولفما نعيشه ناتج في جزء هام منه، عن وجود دول فاشلة مفككة. فالكيانات الصغرى،لن تكون إلا مَرْتَعاً للجماعات المسلحة والعصابات الخارجة عن القانون، فضلا عن أنها فاقدة لكل عمق تاريخي أو أساس قانوني أو شرعية دولية ومقومات الدولة المتعارف عليها في القانون الدولي

وعلينا كنخب مسؤولة ان ننبه من يعبث بالامن الدولي ويؤجج النزاعات المسلحة ويعمل على إطالتها ويسوف في احتوائها بل ويسلح جماعات خارجة عن القانون،ومنها جماعات انفصالية، ويحتضنها ويمولها

السيدات والسادة

لقد أخذت المملكة المغربية، التي تستقبلكم اليوم، على عاتقها مسؤولية التصدي لجميع أنواع التطرف، واعتمدت من أجل ذلك عدة سياساتٍ تتوجه إلى جذور هذه الآفة،فوضعت الخطط لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء،بالموازاة مع اعتماد الخطط الأمنية الناجعة الإستباقيةوالتي يشهد العالم اليوم بفعاليتها على المستوى الداخلي والخارجي، وكل ذلك في إطار احترام القانون ومبادئ ومعايير حقوق الإنسان.

وبالتأكيد، فإن هذه الخطط ما كان لها أن تكون بدرجة الفعالية التي هي بها اليوم، لولا أنها لم تكن تستند إلى تاريخ دولة عريقة وإلى نموذج متفرد في تدبير الحقل الديني يرتكز على إمارة المؤمنين وإلى كون جلالة الملك أمير المؤمنين هو الضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية وإلى كون الصلاحيات الدينية لإمارة المؤمنين مخولة لجلالته حصريا بمقتضى الدستور.

وقد نجحت المملكة بقيادة جلالة الملك في توفير الأمن الروحي وإشاعة الوسطية والاعتدال. وستمكننا العروض التي سنتابعها في برنامج يوم الغد من التعرف أكثر على مضامين هذه السياسة.

وكما لايخفى عليكم فإن النموذج المغربي، يستند في الشق السياسي على ثوابت أساسية أهمهاالتعددية السياسية والحزبية والثقافية وتحريم نظام الحزب الوحيد، وتنصيص الدستور على حرية الرأي والضمير والتعبير، الأمر الذي وفر لبلادنا منذ الاستقلال صحافة حرة  تعددية وأحزابا من مختلف التوجهات، ومجتمعا مدنيا، فاعلا قادراً على التأطير والتعبئة.

وقد شكلت هذه الآليات أدوات تمنيع وكفالة النقد والاحتجاج السلمي، والتوافق مما ساهم في جعل هذا البلد ينجح في تحقيق التغيير من خلال الإصلاح وفي إطار الاستمرارية، ودولة المؤسسات والسلط المستقلة عن بعضها، كما أن الإرادة الملكية وإرادة الأحزاب السياسية المختلفة الاتجاهات، يسرت التناوب على تدبير الشأن الحكومي ومكنت البلاد من مؤسسات قوية

السيدات والسادة

لقد مكنت الإصلاحات التي يرعى إعمالها جلالة الملك،المغرب من أن يكون نموذجا في الإصلاح والبناء على التراكم، وأن يكون قاعدة أساسية للاستقرار الإقليمي وشريكا وفيا وذي مصداقية. إنه نموذج في حاجة إلى الترسيخ. إننا نعتمد في ذلك على إمكانياتنا الذاتية وعلى قوة مؤسساتنا وإرادة ملكنا وشعبنا، ولكننا بالتأكيد في الحاجة إلى شراكة أصدقائنا، الذين يقدرون مكانة هذا البلد ودوره الإقليمي والعالمي ويدركون أنه قاعدة استقرار أساسية في المنطقة.

أرحب بكم مرة أخرى، وأشكركم على حسن الإصغاء.