السيدات والسادة رؤساء الفرق النيابية واللجان الدائمة وأعضاء مكتب المجلس،
السيدة المديرة الإقليمية،
السادة الخبراء،
السيدات والسادة،
يسعدني أن أفتتح أشغال هذه الندوة التي تتمحور حول الإطار المرجعي لتقييم السياسات العمومية من طرف مجلس النواب، والتي ما هي في الواقع إلا حلقة ضمن سلسلة مناقشات معمقة ومنتظمة واجتماعات متتالية حرصنا على تنظيمها والسهر عليها شخصيا، اعتباراً للأهمية الاستراتيجية والحاسمة لهذه الآلية الرقابية التي أوكلها الدستور للسلطة التشريعية.
ومنذ أن أطلقنا هذا الورش الرقابي من عمل مؤسستنا حرصنا على تَمَثُّلِ ثلاث اعتبارات أساسية: أولها الاعتبار الدستوري، أي السند الذي ينبغي أن نبني عليه تقييم أي سياسة عمومية وبرنامج عمومي، والثاني يتمثل في الحرص على تجنب الخلط بين عمليات تقييم السياسات العمومية واختصاصات أخرى منحها الدستور لمجلس النواب (كالخلط بين تقييم السياسات العمومية ومراقبة المالية العامة، أو تقييم هذه السياسات وعمل لجان تقصي الحقائق) فيما يتمثل الاعتبار الثالث في ضرورة بناء عملنا على الاستمرارية والتراكم، في ما يرجع إلى إطار العمل والأفكار والسيناريوهات التي نبلورها.
وستكون الجلسات الدستورية والاجتماعات المؤسساتية التي سندعو إليها قريبا مناسبة لتقديم تفاصيل هذه الاعتبارات وغيرها.
وفي انتظار ذلك، اسمحوا لي، السيدات والسادة، أن أطرح أمامكم ومعكم، بعض الأسئلة المتعلقة بتقييم السياسات العمومية من طرف مجلس النواب، وفي مقدمتها: ما هو السند الدستوري والسياسي لهذا الاختصاص البرلماني؟ ما هي المنهجية التي اعتمدناها في مجلس النواب ونحن نبني إطارا مرجعيا لتقييم السياسات العمومية، يتميز بالعمق والمتانة المفاهيمية والنجاعة ومن شأن اعتماده كدليل مرجعي أن يُنتج عمليات تقييم موضوعية، مواطنة تسمو على الحساسيات السياسية وتستشرف المستقبل بتشخيص مظاهر النقص وضعف الحكامة أو مظاهر القوة وأوجه النجاح في سياسة عمومية معينة؟ فيما يتمثل السؤال الثالث في الهدف من تقييم سياسة عمومية معينة؟
لقد نص دستور المملكة المصادق عليه في استفتاء فاتح يوليوز 2011 في فصله 70 على أن البرلمان "يقيم السياسات العمومية" وهي مهمة وردت في الفقرة الثانية من ذات الفصل الذي يقول «يصوت البرلمان على القوانين ويراقب عمل الحكومة ويقيم السياسات العمومية» ما يجعل الاختصاص البرلماني موضوع هذه الندوة مركزيا في اختصاصات وأعمال البرلمان. ومن جهة أخرى، ينص الدستور في فصله الأول على أن النظام الدستوري للمملكة يقوم «على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة». وما من شك في أن المدخل إلى الحكامة الجيدة هو التقييم والمراقبة وترتيب الإجراءات الضرورية عن ذلك، كما أن المحاسبة تتطلب تحديد المسؤوليات.
وإذا كان عمل البرلمان يتوقف في ما يرجع إلى تقييم السياسات العمومية عند إنجاز عملية التقييم التي ينبغي أن تتضمن التوصيات الضرورية لتحسين أو تقويم سياسة عمومية معينة، فإن نشر تقارير التقييم تضع الرأي العام والسلطتين القضائية والتنفيذية، في صورة إنجاز هذه السياسة أو هذا البرنامج مما يشكل دعوة أخلاقية وسياسية لكل سلطة للقيام بما يلزم، وفي حدود اختصاصها، إزاء نجاح أو إخفاق أو تعثر سياسة عمومية ما.
وبجانب قيمتها السياسية ودورها في إعمال الحكامة التي تعد من مرتكزات الدولة المغربية كما هو منصوص عليه في الفصل الأول من دستور المملكة، فإن لعمليات التقييم وظيفة بيداغوجية حاسمة بوضع السياسات العمومية تحت المجهر من منظور المشرعين، ووضع نتائج التقييم رهن إشارة الرأي العام. وبتفعيل هذه الآلية نعمل تلقائيا على تفعيل مقتضى دستوري آخر أساسي هو مفهوم الشفافية المنصوص عليه في لا يقل عن ثلاث فصول في الدستور (154 و155 و162).
و تتعزز هذه المرتكزات الدستورية لتقييم السياسات العمومية من جانب البرلمان بجوهر فلسفة حكم جلالة الملك محمد السادس وتوجيهاته السامية. فقد أكد جلالته في خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية الحالية على ما يلي: «تعميقا لدور البرلمان في مجال مراقبة الحكومة، فقد تم تدعيمه دستوريا ليتولى مهمة تقويم السياسات العمومية، وهو ما يفتح آفاقا واعدة أمام إمكانية إدخال التعديلات الملائمة والضرورية على البرامج، في الوقت المناسب، وذلك من أجل ضمان حسن سيرها وإنجاحها».
السيدات والسادة،
على أساس هذه المرتكزات الدستورية والسياسية باشرنا الإعداد للإطار المرجعي لتقييم السياسات العمومية من طرف مجلس النواب، وقد سلكنا في هذا العمل منهجية تشاركية بمساهمة المعارضة والأغلبية، والاستعانة بخبرة من خارج المجلس على أن العمل الحاسم والتقريري تولاه مجلس النواب. وحيث إننا، في هذا الأمر بصدد عمل تأسيسي يتوخى الاستدامة والنجاعة، فقد كان لابد من التعرف عن قرب، وفي الميدان، وعلى المستوى النظري والمنهجي على التجارب الدولية، وعلى مختلف المدارس التي تشتغل على الموضوع. وقد وقفت لجنة التقييم بالفعل على خمس تجارب وأنواع من الممارسات في ديمقراطيات عريقة. وقد حرصنا دوما على التذكير في هذه العملية واستحضار خصوصيات نظامنا المؤسساتي وسياقنا الوطني وتقاليدنا السياسية والبرلمانية. وكان الهدف بالطبع من هذا العمل المقارن (Benchmarking) هو التعرف على الممارسات الدولية الفضلى واستحضارها في إعداد الإطار أو الدليل المرجعي.
وإلى جانب هذا الاستئناس، كان علينا أن نحدد في الإطار المرجعي الخطوات التي ينبغي اتباعها في عمليات التقييم، بما في ذلك، على الخصوص، الشروط المرجعية للتقييم والسياق والإطار التشريعي / التنظيمي للتقييم وهدفه ونطاقه والأسئلة التي ينبغي أن تطرح في إطاره والتوجيهات المنهجية وإشراك المواطنين أي السكان المستهدفين من السياسة العمومية والجدول الزمني لإنجاز التقييم والمؤهلات المطلوبة في المكلفين بالتقييم. وكان علينا أن نحدد الجهاز المفاهيمي المعتمد في عمليات التقييم (أكثر من ثلاثين مفهوماً).
لقد كان هاجسُنا وهَمُّنا هو أن نوفر وثيقة متينة واضحة سهلة الاستعمال يُمَكِّنُ اتباعُ خطواتها و تمثل مفاهيمها من تسهيل عمل المكلفين بالتقييم، وتوفير مرجع مستدام لإنجاز هذا الاختصاص من طرف مجلس النواب، مما يمكن، بالتالي (وهذا هو الأساسي) من إنتاج تقييم موضوعي، ذي مصداقية متكامل ومدقق. وما من شك في أن أي تقييم ينبغي أن يتوج بخلاصات وبتوصيات واقتراحات من أجل تحسين السياسة العمومية موضوع التقييم وأخذ مضمون هذا الأخير بعين الاعتبار في سياسة عمومية أو برنامج عمومي مماثلين، وخاصة في ما يرجع إلى أثر السياسة العمومية على قطاع ما أو فئة سكانية معينة أو مجال ترابي وجغرافي معين.
السيدات والسادة،
لقد آلينا على أنفسنا أن ننجز وثائق صالحة للاستعمال اليوم وفي المستقبل، كما حرصنا على تفعيل هذا المقتضى الدستوري وفق مقاربة إشراكية تستحضر روح الدستور وتوجههُ الإصلاحي والتحرري، لذلك مكّنا أنفسنا من الزمن الضروري وبحثنا في عدد التجارب واطلعنا على العديد من الممارسات وطلبنا بعض الخبرات، وهو عمل لم يكن سهلا بالقدر الذي قد يُتَصَوَّر.
إننا في الواقع بصدد تدشين ورش آخر من أوراش الإصلاح البرلماني وتفعيل اختصاص برلماني أساسي.
السيدات والسادة،
إذا كان تقييم السياسات العمومية في المغرب جديد، على النحو الذي هو منصوص عليه في دستور المملكة، فإن ذلك لا يعني انه لم يكن لبلادنا من التجارب والممارسات في تقييم إنجازاتها أي رصيد. فعلى عكس ما قد يسود من اعتقاد، فإن للمغرب خبرة عملية هامة في مجال التقييم كانت جزءا مما أسس عليه إصلاحاته وقعده دستوريا: تقرير الخمسينية الذي كان جلالة الملك محمد السادس نصره الله أن أمر بإنجازه، وهيأة الإنصاف والمصالحة والتقرير المتعلق بالجهوية الموسعة، وتقييم السياسة التعليمية وغيرها من الإنجازات. إنها منهجية الإصلاح التدريجي والتراكم الذي ينتج الإصلاحات والتحولات في إطار ثوابت الأمة، ودون قطائع حادة ومدمرة.
لقد أناط الدستور بالبرلمان مهمة جسيمة بمنحه مهمة تقييم السياسات العمومية، وهي مهمة تتطلب مهارات والتزاما وتتبعا متواصلا من إطلاق التقييم إلى وضع التقرير، وإحاطة بالسياسة او البرنامج العمومي موضوع هذا التقييم من جانب من تسند إليهم هذه المهمة الجسيمة.
وكما تعلمون، فإن المتوخى هو تحسين السياسات العمومية وجعلها تنتج آثارا إيجابية على المستهدفين واستخلاص الدروس من أوجه النجاح أو النقص أو الإخفاق على أن الهدف العام يكمن في النهاية في تحقيق التنمية المتوازنة بالجودة المطلوبة وجعل الإنفاق العمومي منتجا وتحسين المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي مجال الخدمات الاجتماعية. ولا شك ان ذلك يقع في صلب الديمقراطية وأهدافها ومضامينها الاقتصادية والاجتماعية.
تلكم هي بعض القضايا التي كنت أود أن أتقاسمها معكم في افتتاح هذه الندوة على انه ستتاح لنا قريبا الفرصة لكي نستعرض مع أ ول عمليات التقييم من إنجاز مجلس النواب وفيه ستكون المنهجية التي اخترناها أمام اختبار التفعيل.
واسمحوا لي في الختام أن أشكر مؤسسة ويستمنسر للديمقراطية شريكنا في تنظيم هذه الندوة وفي عدد من الأعمال الأخرى، وكل من سيتدخل لإغناء أشغالنا وجميع الحاضرات والحاضرين الذين يثمنون أعمالنا.
كما أتوجه بالشكر للخبراء المشاركين في هذه الندوة مكتب الدراسات ورئيس اللجنة الموضوعاتية لتقييم السياسات العمومية، ولكل السيدات والسادة النواب.
والسلام عليكم.