تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة السيد الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب في افتتاح أشغال الاجتماع الرابع عشر لشبكة البرلمانيين المتوسطيين من أجل التنمية المستدامة (COMPSUD).

17/12/2019

السيد رئيس شبكة البرلمانيين المتوسطيين من أجل التنمية المستدامة

الزميلات والزملاء البرلمانيين أعضاء الشبكة،

السيدات والسادة

 

يسعدني أن أفتتح أشغال الاجتماع السنوي الرابع عشر لمجموعة البرلمانيين المتوسطيين من أجل التنمية المستدامة التي اختارت المملكة المغربية لعقد هذا اللقاء الذي سيناقش قضايا في غاية الأهمية بالنسبة لِرَاهِنِ ومستقبلِ المنطقة المتوسطية والعالم.

وأود في البداية أن أرحب بضيوف المغرب الكرام، وأُثْنِي على عمل هذه الشبكة البرلمانية التي تهتم بمواضيع على درجة كبيرة من النُّبْلِ، والتي تتوخى إنضاج التفكير على أساس التقاطع بين البحث العلمي وما هو السياسي، وتحليل السياسات العمومية بشأن التنمية المستدامة في أبعادها المتعددة. وما اختياركم لمحور "العلاقة بين الماء والطاقة والتغذية والنظام الإيكولوجي" إلا عربونا على أهمية وَراهِنِيَة اِهتمامات وأهداف مجموعتكم التي تلتقي مع أهداف التنمية المستدامة التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 2015، ومع أهداف العديد من المنظمات والتكتلات الدولية والاقليمية.

واسمحوا لي بهذه المناسبة، أن أؤكد لكم أن المغرب الذي يستقبلكم اليوم، كان سباقا إلى وضع هذه الأهداف في صلب سياساته العمومية. فمنذ الستينات من القرن الماضي، اعتمدت بلادُنا سياسةً مائية رائدةً على المستوى العالمي متمثلةً في بناء السدود وتعبئةِ الموارد المائية وتحويلها إلى حيثُ الحاجةُ، واستصلاح الأراضي الزراعية ضامنة على هذا النحو أَمْناً مائيا وإنتاجا زراعيا متنوعاً.

وبناء على هذا التراكم، ووفاء منه لتقاليدِه العريقة والراسخة في مجال الفلاحة يُكَثِّفُ المغربُ اليوم من آليات تعبئة المياه ويُطَوِّرُ نموذجا زراعيا رائداً بفضل مخطط المغرب الأخضر الذي مَكَّن من مضاعفة الانتاج والمردودية والقيمة المضافة الفلاحية، مُساهِماً على هذا النحو في ضمان الأمن الغذائي وتحسين المداخيل.

إنكم تمثلون، السيدات والسادة البرلمانيين والخبراء وممثلي القطاعات العمومية والمجتمع المدني، بلدانا، تُشَاطِئُ أكبَر بحرٍ مغلق في العالم، وتقع في حوض يعاني من عدة ضغوطات بيئية تَزِيد من حِدَّتها عواملُ جيوسياسية، تجعل منه منطقةً حيث النزاعاتُ والحروبُ الأقدم في العالم، وحيثُ تتكدس الأسلحة، وحيث يتِم تسجيل أكبر حركاتِ هجرةٍ قسريةٍ ونزوحٍ ولجوءٍ، جراءَ النزاعات والأزمات والاختلالات المناخية. وتنضاف هذه العواملُ إلى الاستغلال المفرط للثروات الطبيعية في الحوض المتوسطي حيث إِجْهَادُ التربة، والاستغلال المفرط للمياه، والتلوث السائل والصلب، وتراجع المساحات الغابوية.

وفي سياق الندرة تَحْتَدُّ الصراعات حول الماء الذي انضاف كعنصر منافسة إلى الطاقة، وَيحْتَدُّ التنافس على الأغذية ومصادِرِها. وبعد أن ظلت الطاقة التقليدية على مدى 80 عاماً مصْدَرَ نِزاعات دولية وإقليمية، صار الماء والأغذية من الرهانات الاستراتيجية الدولية.  وسيحْتَدُّ الصراع حول هذين العنصرين الضروريين للبقاء في ضوء ارتفاع الطلب والزيادات السكانية وتضاؤل الموارد، مما يُنْذِر بمزيدٍ من النزاعات إذا لم تتحملْ المجموعةُ الدولية مسؤوليتها بإيجاد الأجوبة المسؤولة والحاسمة والإِرادية لهذه المعضلات.

وتسجل المناطق الرطبة الساحلية في منطقة المتوسط تراجعا كبيراً بلغ حَدَّ اندثارِ عددٍ منها ؛ مِمَّا أَثَّرَ، ويؤثِّر، على النظام الإيكولوجي وتوازنه، وينذرُ بانْدِثار عدد من الأحياء الطبيعية والاصناف النباتية. وإذا كان الجفاف يُعْتَبَر إحدى الأسباب الموضوعية لهذا التراجع، فإن سلوكَ العنصر البشري يُعَدُّ بدوره حاسماً في هذه الظاهرة. فالاختلالات المناخية وما يَنْجُمُ عنها من جفاف في الغالب، وفيضانات أحياناً، ناتجةٌ عن السلوكات البشرية والاستغلال المفرط، وغير العقلاني وغير المستدام للموارد، وعن تلويث الهواء والأرض والمياه.

وإزاء نُدْرَةِ الطاقات التقليدية، والتنافس القوي عليها، ينبغي تكثيف الاستثمار في إنتاج الطاقة من مصادر متجددة، وتكثيف البحث العلمي في هذا المجال، وتطوير تصنيع التجهيزات المستعملة في توليد الطاقة من هذه المصادر. ومرة أخرى، يوجد المغرب من بين البلدان الرائدة في إنتاج الطاقة النظيفة كأحد مكونات الاقتصاد الأخضر الذي وَضَعَ لَهُ استراتيجياتٍ وخُطَطَ طموحةٍ في سياق البحث عن تلبية حاجياته من الطاقة.

 ومواكبةً لذلك، أحدثنا في مجلس النواب مجموعةً موضوعاتيةً مَعْنِيَةً بالاقتصاد الأخضر هدفُها تقديمُ اقتراحاتٍ في مجال التشريع والسياسات العمومية بشأن تشجيع إنتاج واستعمالات الطاقة من مصادر متجددة.

ومرة أخرى يُطرحُ في هذا السياق سُؤالُ التضامن وتقاسم التكنولوجيا بين الشمال المصنع والجنوب الباحث عن التنمية.

وإنني على يقين من أن تكامل المقاربات وتقاطع الرؤى في هذا اللقاء بين البرلمانيين بصفتهم مُشَرِّعِين ومراقبين للعمل الحكومي وللسياسات العمومية من جهة، والخبراء من جهة ثانية والمسؤولين الحكوميين ومسؤولي المنظمات الدولية من جهة ثالثة،  سَيُمَكِّن من صياغة مقترحات ومقاربات قابلةٍ للإدماج في السياسات العمومية، على المستوى الوطني والإقليمي والدولي.

وينبغي للسياسات الوطنية والالتزامات الدولية في هذا المجال أن تخضع لتأطير تشريعي وطني ولتعاقداتٍ متعددة الأطراف مُلْزِمةٍ ومتبَادَلَةٍ، خاصة في ما يلاحظ من تراخي في التعبئة الدولية الحكومية ومن تواضعٍ في الوفاء بالالتزامات المتعلقة بموَاجهة مخاطر الاختلالات المناخية.

ولعل الدليل على ذلك نتائج الدورة 25 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة-الإطار حول التغيرات المناخية في مدريد التي كانت نتائجها محبطة.

ويوجد البرلمانيون في المكانة الملائمة التي تؤهلهم للعب أدوارَ حاسمة ليس فقط في التشريع، ودفع الحكومات إلى اعتماد السياسات البيئية والإنمائية المناسبة، ولكن لتعبئة الراي العام وتحسيس المجتمع المدني بِنُبْلِ أَهداف التعبئة من أجل الحفاظ على البيئة وحسن استعمال وتعبئة الموارد المائية ونشر ثقافة التنمية المستدامة.

وما من شك في أن شبكة البرلمانيين المتوسطيين من أجل التنمية المستدامة مدعوةٌ إلى الاضطلاع بدور حاسم من أجل إجراءات وسياسات عابرة للحدود في المنطقة المتوسطية.

ويتعلق الأمر على الخصوص بجعل تحويل التكنولوجيا الضرورية، وَتَمَلُّكِهَا لتطوير الفلاحة من بلدان شمال المتوسط إلى بلدان جنوب المتوسط وافريقيا جزءً من مرافعاتها في البرلمانات الوطنية وفي الإطارات المتعددة الأطراف. ويتعلق الأمر أيضا بتيسير نقل تكنولوجيا تحلية مياه البحار، وبناء السدود من أجل تعبئة المياه وتوفير احتياطات استراتيجية منها، وتكثيف الزراعات مع الحرص على الحفاظ على الأرض بما يَكْفَلُ استدامةَ التنمية التي ينبغي أن يكونَ الانسانُ في صلبِهَا وَهَدَفَهَا.

إننا مدعوون أيضا إلى الترافع من أجل جعل البلدان والهيئات المانحة تفي بالتزاماتها إزاء البلدان النامية المتضررة من الاختلالات المناخية، وجعل الزراعة وتربية الماشية والصيد البحري في صلب الاستراتيجيات الوطنية للتنمية، وتثمين استعمال الـمُخَصِّبَات الزراعية الميسرة لزيادة وتكثيف الإنتاج، وجعل الفلاحة مصدراً ثميناً للدخل وللتشغيل الضامن للكرامة، وتيسير تَمَلُّك التكنولوجيا المستعملة في تحويل وتعبئة وتثمين المنتوجات الفلاحية، من الشمال إلى الجنوب.

وعلى البلدان الـمُصَنَّعَة ألا تكون بَخِيلَةً أمام هذه المطالب التي لا ينبغي اختزالها في الإطار الضيق لـ"حقوق المخترعين والمصنعين"، فالقضية أَنْبَلُ من إخضاعها للحسابات التجارية، إذ تتقاطع فيها قِيَمُ التضامن والمسؤوليةُ المشتركة إزاءَ المستقبل.

 

الزميلات والزملاء

السيدات والسادة،

إزاء التحديات التي تهدد بإعادة إنتاج الفقر والتهميش وتعميق الفوارق الاجتماعية والمجالية، مع ما قد يَنْجُمُ عن ذلك من ضعف التماسك الاجتماعي وعدم الاستقرار، ينبغي لنا أن نستعيدَ روح حوض البحر الأبيض المتوسط، كفضاء للتعايش والتضامن والتآزر والسلم، والوحدة. وينبغي لنا أن نتقاسم المهارات والتكنولوجيا والتقنيات التي تُيَسِّرُ الإنتاج بشكل أنظف وأسرع وعلى نحو مستدام.

ومامن شك في أن الآليات البرلمانية المتعددة الأطراف، تشكل إطاراً ملائما للاقتراح وللمبادرات المشتركة التي ينبغي توحيدُها وتكثيفُها لتكتسبَ قوةَ الترافع العابر للحدود، وليكون صَدَاها أقوى على المستويات الوطنية ومتعددة الأطراف.

وإذا كان تدبيرُ المياه وحسنُ استعمالها، والزراعةُ، إِرْثاً متوسطياً قَلَّ نظيرُه ؛ حيث بَرَعت شعوبُ حول البحر الأبيض المتوسط في تعبئة المياه ونقلها واستعمالها، وتتوفر على تقاليد عريقة وراسخة في هذا المجال، هي جزء من حضاراتها المتنوعة والغنية، فإننا مطالبونَ اليوم باستعادة ثقافة تدبير النُّدْرة والتضامن وَتَوْرِيثِ الممارسات الإيجابية للأجيال القادمة، والتفاعل الإيجابي وتيسير المبادلات بين الشعوب على النحو الذي يُقَرِّبُ في ما بينها ويؤسِّسُ لثقافةِ التعايش والسلم على أساس الازدهار والرخاء المشترك.

وإذ أتمنى لأشغالكم النجاح، آملُ أن تُتَوَّجَ باقتراحاتٍ وتصوراتٍ قابلةٍ للتنفيذ، وتُيَسِّرُ بناءَ الوعي الجماعي بجسامةِ التحديات المطروحة.

ثشكرا على إصغائكم.