تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة السيد راشيد الطالبي العلمي رئيس مجلس النواب في الجلسة الافتتاحية للمنتدى البرلماني الفرنسي-المغربي

أصحاب المعالي

السيد Gérard Larcher رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي،

السيد Claude Bartelone رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية،

السيد محمد الشيخ بيد الله، رئيس مجلس المستشارين

السيدات والسادة البرلمانيين أعضاء الوفدين الفرنسي والمغربي،

حضرات السيدات والسادة الحضور الكرام،

 

مرة أخرى، يتجدد اللقاء بين البرلمانَيْن الصديقَيْن، الفرنسي والمغربي.  وهذه المرة، جئنا إلى باريس ممتلئين بنفس الإرادة المشتركة التي سبق وجمعتنا في الرباط، بنفس الروح الوثَّابَة التي وضعنا بها الحجر الرمزي الأساس للمنتدى البرلماني الفرنسي – المغربي كي نوفر لبلدينا ولشعبينا إطاراً نوعياً للحوار والتفكير والاقتراح، وبنفس الحرص والإصرار على أن نواصل اللقاء المؤسسي المنتظم لنتبادل الرأي وننصت لبعضنا البعض حول جملة من القضايا التي تشغلنا وتهمنا بالقدر نفسه.

من الواضح جدا أن هذا اللقاء يؤكد على مدى رغبتنا في أن نواصل ما بدأناه، وأننا بذلك نترجم فعليا قوة العلاقات المغربية-الفرنسية. هذه العلاقات القائمة على أسس متينة من الصداقة والجوار المتوسطي بل الجوار التاريخي والحضاري والثقافي، والتي تتعزز كلَّ يوم، وتتنوع كلَّ يوم، وتَغْتَني بفضل الحوار المفتوح والحرص المشترك، وأَساساً بفضل الرعاية والمواكبة والتشاور لقائدَيْ البلدين الصديقين صاحب الجلالة الملك محمد السادس وفخامة الرئيس فرانسوا هولاند.

إن روح الصداقة الحية التي تشكل نوعاً من الإِسمنت الصَّلْب لعلاقات بلدَيْنا وشعبَيْنا ليست إِرثاً جامداً، وإِنما هي سيرورة من العمل الدؤوب المشترك، المثمر والمؤثر في الاتجاهَيْن معاً. ومن ثَمَّ سَعَيْنا مع بعضنا البعض إلى أن نصنع مستقبلاً مشتركاً لعلاقاتنا ولصداقتنا.

وليس من قَبيلِ الادِّعاء أَبداً أَن نؤكد مرة أخرى، هُنَا والآن أمام أَصدقائنا الفرنسيين الذين يعرفوننا حق المعرفة ويواكبون مسارنا بعمق، أن المغرب ينهج نهج الاصلاح السياسي والدستوري بإِرادة شجاعة مِقْدَامة وغير مترددة، حيث راكم إصلاحات متقدمة بنيوية شاملة وفرت للمغرب صورةً إيجابية ومكنَتْه من أَنْ يحظى بمكانة مرموقة وثقة ومصداقية.

نريد في المغرب، ملكاً وحكومة وشعباً بقواه الوطنية الحية جَميعِها أن نُقَوِّيَ البناء المؤسساتي، وذلك عبر تمتين دولة القانون والممارسة الديموقراطية وتجديد وتطوير تَرسانتنا القانونية، خصوصاً ضد آفات الإرهاب والجريمة المنظمة وتهريب البشر والأسلحة والمخدرات. كما ننهج أفقاً حيوياً من الاصلاح التربوي والثقافي والديني ضد إيديولوجيات الانغلاق والتشدد والتطرف والعنف.

وفي نفس السياق، شيدت بلادنا استراتيجية شاملة لمحاربة مختلف أَوْجُه الاقصاء الاجتماعي وتهميش الفئات الاجتماعية الأكثر فَقْراً وإِعادة الاعتبار لمختلف الجهات والمناطق التي لم تكن تشملها فعلياً خطط التنمية الحقيقية الملموسة. ومن ثم نجحت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH)، التي وضعها وأشرف عليها جلالة الملك شخصيا، في زرع الأمل من جديد بأن التقليص من حدة الفقر ممكن جداَّ بفضل روح المقاربة التشاركية وسياسة القرب والحكامة المحلية الجيدة وإشراك عددٍ كبير من مكونات المجتمع المدني.

وليس هناك من شك في أن الاصلاح الدستوري لسنة 2011 مَكَّنَ المغرب من أَن يُسْرِعَ الخُطَى نحو تقوية خيار المجتمع الديموقراطي الحديث الذي تُصَانُ فيه حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، إذ توفرت الكثير من الضمانات الدستورية لفعل حقوقي ذي مصداقية في أعين شعبنا ولدى الرأي العام الدولي. كما أرسى النص الدستوري في يوليوز 2011 عدداً من المؤسسات الوطنية ذات الاهتمام بالشأن الحقوقي كالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان بتشكيلته المستقلة من المجتمع المدني والخبراء، ومؤسسة الوسيط، ومجلس الجالية المغربية في الخارج، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، فضلاً عن مجالس مستقلة خاصة بالشباب والنساء والعمل الجَمْعَوي وقضايا الثقافة واللغة... وغيرها.

 

السادة الرؤساء،

حضرات السيدات والسادة،

من هنا، نملك معاً حس الصداقة التي ينبغي أن تتجدد كل يوم.

الصداقة التي تملي علينا معاً واجب الاحترام المتبادل، والإنصات المتبادل، والثقة المتبادلة، ثم واجب التنسيق والعمل المشترك في مختلف المجالات والظروف، خصوصاً في ما يخدم بلدينا وشعبينا، ويخدم الاستقرار والأمن والحياة الطبيعية السليمة في الفضاء المتوسطي والأوروبي والامتداد الأفريقي والعربي، بل وعلى المستوى الدولي بالتأكيد. ذلك لأن الجهات الأربع للعالم، لا المنطقة المتوسطية أو المغاربية وحدها، أصبحت منشغلة بنفس القضايا والإشكاليات والكوارث الطبيعية والبشرية وفي مقدمتها القضايا التي نجتمع اليوم لتبادل الرأي حولها، ولنرسم معاً – بالأساس – أفقاً مشتركاً من التفكير فيها والنظر إليها. أقصد : رهاناتنا المشتركة حول الأمن، وسبل مواجهة الارهاب وأسبابه، وسبل التعاون في منطقة الساحل والصحراء وكذا قضايا التنمية المستدامة التي أصبحت اليوم أحد أقطاب الاهتمام الكوني بفضل الاستراتيجية الجديدة التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة وأسهم في بلورتها وفي تَبَنِّيها ودعمها البرلمانيون في العالم، من خلال منظمتهم الاتحاد البرلماني الدولي. هذا فضلا عن رهانات البيئة والدور البرلماني في التعبئة ضد الاختلالات والتغيرات المناخية والكوارث الطبيعية وضمنها معضلة التصحر، فضلاً عن أهمية الطاقات المتجددة في برامج عملنا البرلماني والحكومي.

من الوعي أو الضمير إذن، من أمن الضمير تبدأ الحكامة الأمنية، وتبدأ الاستراتيجيات الأمنية. والضمير هنا هو الارتقاء إلى مستوى الحكمة التي لا تؤمن            بالقوة وحدها، وكما يقال فإن "القوة من دون الحكمة، تهوي تحت وطأة وزنها".

إن السياسات الدولية القائمة على الكيل بمكيالين والتحالفات الاستراتيجية العمياء لن تسهم أبداً في إقرار منظومة أمنية عالمية فعالة ومنتجة. والواقع أننا ألححنا كبرلمانيين داخل الاتحاد البرلماني الدولي، منذ سنة 2003، على أهمية الأمن في رفاهية الشعوب. ولكننا، وفي نفس الآن، بقينا ننتظر أن يكون للشعوب صدى في السياسات الأمنية العالمية. ولم يحدث إلا ما ساعد على تغذية العنف والكراهية والأحقاد.

والنتيجة، هانحن نرى الرعب الذي أضحت تبثه الجماعات الإرهابية في عالمنا المعاصر وقد اتخذت لها لبوسا دينية أو عقائدية. وباتت التهديدات الأمنية تضرب في قلب البلدان الكبيرة كما في عمق البلدان الصغيرة. وبدأنا نشهد ميلاد "دول داخل الدول"، وحروباً تتفجر هنا وهناك، وظاهرة قطاع طرق جدد بين الدول لا بين القبائل كما كان عليه الأمر في القرون الوسطى.

وبدون شك، فإن البيئة الأمنية لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالبيئة الطبيعية والتغيرات المناخية التي لها انعكاساتٌ – كما نعلم – على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بل لها مخاطر من حيث انتشار مظاهر الفقر والبطالة والجوع ومختلف الآفات الاجتماعية.  وليس من قبيل المصادفة أن تنبثق أو تنشط الظاهرة الارهابية في مناطق فقيرة أو قاحلة أو محدودة الإمكانيات المادية والطبيعية. هناك حيث تتغير الأوضاع الأمنية سريعاً وبصورة جذرية – تحت وطأة الحاجة والفقر وضعف المصادر – وتتولد ظواهر الإرهاب والجريمة المنظمة وتجارة الأسلحة وتهريب البشر والمخدرات.

علينا أن نتأمل بعمق وبمسؤولية معنى انبثاق بعض الظواهر الخطيرة  كالإرهاب والعنف والجريمة المنظمة والمخدرات في سياقات التصحر الطبيعي والفقر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

وفي هذا الإطار، فإننا -  نحن الذين عشنا محنة الارهاب وبعضاً من صوَره المرعبة في كل من الدار البيضاء ومراكش - أَدَنَّا مثلما أدان العالم بشاعة الاعتداءات الإرهابية على باريس، وعلى متحف باردو في تونس. فما شاهدناه جميعاً على شاشاتنا الصغيرة من ممارسات وحشية همجية مدانة ومرفوضة دينيا وحضاريا وإنسانيا وأخلاقيا لايمكن أن تمثل بأي حال من الأحوال سماحة عقيدة سماوية تمنع بوضوح قتل النفس البشرية.

وهنا، لا يسعُني إلا التنويه بالتعاون البَنَّاء المثمر الناجح والفَعَّال بين مصالحنا الأمنية المغربية والمصالح الأمنية الفرنسية لما فيه خيرُ وأَمْنُ شَعْبَيْنا بل وأَمْنُ الأفراد والجماعات في الفضاء المتوسطي والأروبي، وغيره.

لذلك، تكتسي المسألة الأمنية بمعناها الشامل أهمية حيوية في عالمنا الراهن. وبالتالي، فإن الحياة الانسانية في تدهورها الراهن وحالات الرجوع إلى أنواع من الهمجية تتطلب من المنتظم الدولي اتخاذ خطوات أكثر حزما واستعجالا.

إنه واقع ملموس ومخاطره ملموسة. لذلك نحتاج إلى فعل كوني ملموس.

نحتاج إذن إلى إرادة سياسية واستراتيجية دولية تعيد العالم إلى هدوئه وعقلانيته وحكمته ومبادئه الإنسانية المؤسسة. وفي انتظار ذلك، تعتمد الشعوب على نفسها في صيانة أمنها مثلما تعتمد على أصدقائها في بلورة مشاريع تعاون متعدد، أمني واقتصادي واجتماعي وثقافي. ذلك لأن حماية الاستقرار العالمي تبدأ كذلك بحماية استقرار الأوطان والمناطق الاقليمية والجهوية.

ونحن على يقين بأن المسألة الأمنية باتت اليوم واجباً على الجميع، لا واجب الحكومات وحدها ولا القطاعات والمصالح الأمنية المتخصصة وحدها، وإنما واجب ينبغي أن ينهض به شركاء متعددون وضمنهم البرلمانيون والمؤسسات الرسمية والشعبية، كُلٌّ من موقعها وحسب اهتماماتها، وكذا منظمات المجتمع المدني والمدرسة والجامعة والمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، بل وكذا المصلحون والمفكرون والفلاسفة والمبدعون ونجوم الفن ورموز المجتمعات وضمائر العالم المتحضر.

 

                                                                       شكراً على اهتمامكم. والسلام عليكم.