بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أَشْرف المرْسَلين
السيد رئيس الحكومة،
السيد رئيس مجلس المستشارين،
السادة الوزراء،
السيد رئيس المحكمة الجنائية الدولية (CPI)،
السيدة الرئيسة بالنيابة (Par intérim) للمجلس الدولي لحركة PGA (برلمانيون من اجل التحرك العالمي)،
السيد رئيس المجلس الدستوري،
السيد رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان،
السيدات والسادة النواب والمستشارين،
أصحاب السعادة والمعالي الموقرين،
حضرات السيدات والسادة،
أجد نفسي معتزا وسعيدا ومسرورا بأن أرحب بضيوف المغرب الكبار الذين يشرفوننا بحضورهم بيننا، وبكل ما يمثلونه من قيم، وما يجسدونه من ثقافة حقوقية وأخلاقية، وما ينشدونه من أفق كوني رحب للعدالة الإنسانية.
وإذ أعتز بكم جميعا، إسمحوا لي أن أعبر عن عميق وصادق اعتزازي كذلك ببلادي التي تتشرف باحتضان هذا المنتدى العالمي، منتدى البرلمانيين والبرلمانيات من أجل المحكمة الجنائية الدولية (CPI)، والذي يضم الجمعية الاستشارية لهذه المنظمة في دورتها الثامنة والمنتدى السنوي السادس والثلاثين للحركة العالمية للبرلمانيين (PGA)، بلادي التي احتضنت قبل أيام قليلة فقط المنتدى العالمي الثاني لحقوق الإنسان الذي خصص حيزاً للفعاليات البرلمانية عبر إسهامها ودورها في إثراء الثقافة الحقوقية وترسيخها وتقويتها وتحصينها في الفضاء الكوني المعاصر.
ولقد كان المنتدى العالمي في مراكش، الأسبوع الماضي، فرصة سانحة أكد خلالها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله على اختيارات المغرب الحقوقية التي لا رجعة فيها معلنا جلالته عن تقديم أدوات تصديق المملكة المغربية على البروتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية، أو المهينة ليصبح المغرب بذلك ضمن البلدان الثلاثين التي تتوفر على آلية وطنية للوقاية بشر جلالة الملك بإحداثها خلال الأشهر المقبلة.
لقد تخطى المغرب نقط ضعفه الحقوقية القديمة، فواجه الذات بجرأة ووعي ومسؤولية سياسية وأخلاقية، وتوفرت لقيادته الحقوقية الوطنية ولمجتمعه المدني ما جعلهما يلتفان حول إرادة ملك جسور عَرَفَ بحكمة وتبصر، وإدراك لسيرورة التاريخ ولمعطيات الواقع داخل بلاده وخارجها، كيف يتجاوب مع تيار المستقبل ويسعى إليه.
هكذا، استند ملك المغرب، جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، إلى مكاسب المغرب الحديث والمعاصر كي يؤسس للأفق الجديد، وللصورة الجديدة القوية وذات المصداقية لبلاده.
ومنذ البداية، أدرك عاهل البلاد أن المغرب الجديد الذي يقتسمه مع جيله وعصره ومحيطه الكوني، لن يكون بأي حال هو ذاته المغرب القديم. صحيح، لقد اختار المغرب – منذ الأشهر الأولى من الاستقلال الذي حققه سنة 1956 – أن يسن لنفسه نظام حكم قائم على التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية، وسارع ملك البلاد آنذاك المغفور له محمد الخامس إلى إقامة أول مجلس استشاري وطني، كأول تجربة برلمانية قامت على أساس توافق المكونات الوطنية كلها. ثم بادر الملك الراحل الحسن الثاني بل الله تربته، وبمجرد جلوسه على عرش أسلافه سنة 1961، إلى الإعلان عن أول دستور للمملكة المغربية صودق عليه في الاقتراع العام المباشر سنة 1962 تلته أول انتخابات تشريعية سنة 1963 أفرزت أول برلمان منتخب بغرفتين في نفس السنة.
وكان على المغرب أن يعبر مراحل صعبة وقاسية وعسيرة، ومؤلمة أحيانا، كي يحافظ على استقراره الوطني، وتماسكه الاجتماعي، ومكسب تعدديته. حيث وضع ملك البلاد الراحل الحسن الثاني المغرب على خريطة بلدان العالم الحر، وفي قلب مجموعة دول عدم الانحياز، حليفا للحداثة والتقدم، منتصراً لقيم السلم والحرية والعدالة والأمن في العالم.
ومع تسلم جلالة الملك محمد السادس حفظه الله المسؤولية التاريخية من والده، مضى جلالته لتوطيد تحول ديموقراطي حقيقي نعيش الآن في عمقه وفي أفقه.
ومن هنا، تخطى المغرب عثرات الماضي، وطوى الصفحة التي خدشتها بعض المراحل العسيرة. وشكل بشجاعة ونزاهة هيأة وطنية للمصالحة الحقوقية، وأصدر عفواً عاماً شاملاً لكافة سجناء الرأي والمغتربين، واحتضن كافة بناته وأبناءه، وعوض جميع ضحايا الأخطاء في الماضي، وحقق تصالحات كبرى في الفضاء الحقوقي، مثلما في المجال الاجتماعي خصوصاً ما يعيد الاعتبار للمرأة والأسرة في مدونة اعتبرت نموذجية في العالم العربي والاسلامي، وكذا في المجال الثقافي واللغوي بإعادة الاعتبار الرسمي الدستوري للمكون الثقافي واللغوي الأمازيغي بل ولمكونات أخرى في نسيج وهوية الشعب المغربي عربية أفريقية أندلسية وعبرية كما هو واضح في ديباجة دستورنا الحالي الذي صادق عليه شعبنا في يوليوز 2011، وحظي بالتفاتات كونية، إذ رأى فيه المراقبون الدوليون خطوة إصلاحية متميزة في المحيط العربي والأفريقي على الأقل، إن لم يكن خارجه أيضا.
وفي هذا المنظور، جددت بلادنا الكثير من أسس وعناصر ترسانتها القانونية ولاتزال تواصل هذا، وسعت – إن في نظامها الدستوري الحالي أو في قوانينها وتشريعاتها – إلى التلاؤم مع القانون الدولي، والمزيد من الثقة والتعلق بالشرعية الدولية، وهي جادة في الإسهام في أفق قضائي كوني ينتصر للعدالة الانسانية وللثقافة الحقوقية العالمية المتمثلة في عدم الإفلات من العقوبة لجميع من أجرموا ضد السلام، فاشتركوا في التخطيط والاعداد لحروب ظالمة وشنها، ومن ارتكبوا جرائم حروب من حيث مخالفة قوانين وأعراف الحرب،ومن ارتكبوا جرائم ضد الانسانية من قبيل الجرائم والانتهاكات التي تشكل تهديداً للمرتكزات والأسس التي ينهض عليها بنيان المجتمع الدولي.
إننا إذن مؤمنون بقيمة وأهمية وضرورة تحقق عدالة كونية.
والمغرب يتقدم في هذا الأفق منتبها إلى المحيط الخارجي من حوله. وقد اتخذ حتى الأن توجها حاول من خلاله أن ينجز عناصر متقدمة من الملاءمة بين القوانين الوطنية وأحكام الاتفاقيات الدولية، خصوصاً في ظل السقف العالي الذي وفره دستور 2011 الذي نصت ديباجته بوضوح على التشبث بالمنظومة الحقوقية والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وكذا الفصل 23 من دستور المملكة الذي أكد على ضرورة العقاب بمقتضى القانون على جرائم الإبادة وجرائم الحرب وغيرها من الجرائم ضد الانسانية التي تندرج – كما نعلم – ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية.
حضرات السيدات والسادة،
كان الفيلسوف الألماني هيغل قد رأى في سنة 1806 روح العالم وهي ترتدي قبعة وتركب حصانا وتجوب القارة الأوروبية. وهو ما جسده في نظره الفرنسي بونابارت الذي حمل على ظهره الثورة الفرنسية وجاء يخبر عن انتصار التاريخ الأخير، أي عن نهايته !
ولقد تواصلت الاجتهادات الفكرية الكونية حول فرضية نهاية التاريخ، من مختلف المرجعيات والأنساق الفلسفية، وذلك على امتداد القرنين الثامن والتاسع عشر بالخصوص وصولا إلى التطورات المعاصرة التي قادت فوكوياما إلى استعادة الفكرة القديمة في سياق جديد، وبدا أن هذا المفكر قد أخطأ حين تحدث عن "نهاية للتاريخ" بدت متحمسة جداً، لمجرد ما رأى سقوط المعسكر الشيوعي. وسرعان ما عاد هذا المفكر الأمريكي، ذو الأصول اليابانية، إلى التخلي على هذه النهاية وتقديم نقد ذاتي حولها. فقد بدا للجميع، بأقصى وضوح ممكن، أن نهاية التاريخ مجرد فكرة شخصية، ولايمكن تحققها بشخص أو دولة أو محكمة قد تخاطب العالم بنبرة آمرة.
ومن هنا، عندما "يتدهور كل شيء في أيدي البشر" بتعبير جان جان روسو، ويصاب التاريخ بلعنة "فساد الأزمنة" ، تحتاج الانسانية إلى عدالة التاريخ، أي عدالة القوانين وشرعية من يشرع هذه القوانين، وشرعية من ينفذها.
نحتاج إذن إلى محكمة التاريخ التي لاتنتصر للأقوياء على حساب المستضعفين من ذوي الحقوق، أفراداً وجماعات وبلداناً ودولا، ولا تنتقي متهمين وأظناء من بين متهمين وأظناء، ولا تصدر أحكاماً دون تحقيقات ميدانية وإطلاع شامل ودقيق وحكيم ومتبصر وشجاع.
أجدد الترحيب بضيوفنا الأجلاء شاكراً لهم فضل اختيار المغرب لعقد هذا المنتدى الهام، وأتمنى لأشغالنا كامل التوفيق والنجاح.
شكراً لكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.