السيد الرئيس،
السيد الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية،
السادة الرؤساء ورؤساء الوفود العربية الشقيقة،
السيد الأمين العام للاتحاد البرلماني العربي،
ضيوفنا الأجلاء،
أيها الحضور الكرام،
يسعدني ويشرفني أن أرحب بأشقائنا أعضاء المؤتمر، أعضاء الاتحاد البرلماني العربي الموقر، في بلدكم الثاني – المملكة المغربية -، هنا في مقر البرلمان المغربي آملا لهم جميعا المقام الطيب، شاكرا لهم شكرا جزيلا حسن استجابتهم لدعوة المغرب الذي بادر إلى احتضان هذه الدورة، الرابعة والعشرين، رغم إدراكه وإدراكنا الجماعي لدقة المرحلة العربية الراهنة وتعقيدات واقعنا السياسي العربي التي باتت معروفة وشائعة ومؤلمة، ورغم حجم وثقل المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي باتت تسائل ضمائرنا وإرادتنا جميعا.
ولاشك أننا واعون اليوم، في ظل هذه اللحظة التاريخية الصعبة، بمدى تردي الأوضاع العامة التي تعيشها أمتنا العربية جمعاء، من مائها إلى مائها، من خليجها إلى محيطها، إلى حد أن لا أحد يمكنه أن يقدم الدروس لغيره، ولا أحد بات بإمكانه أن يستأثر بأفضل التشخيصات والقراءات والتأويلات لواقع يفرض وضوح عثراته واختلالاته على الجميع.
ويكفي أن تجتمع إطارات العمل العربية، في هذه الظروف والشروط، لنعتبر أن هناك فسحة أمل لا تزال قائمة، ويمكن أن يتحاور عربي مع عربي، وينصت عربي لعربي، ويحس عربي بعربي.
ولكن، هل يكفي أن تجتمع أمة اليوم، في هذا الإطار أو ذاك، لكي تجتمع على الحق، وتجتمع على المصارحة، وتجتمع على الوضوح، وتجتمع على إرادة خيرة وأفق مشترك وإحساس واحد بالواقع وإمكانيات التجاوز ؟
لذلك، فأن يجتمع الاتحاد البرلماني العربي – هنا والآن – فهو في حد ذاته مكسب وفرصة لتحقيق الحد الأدنى مما يجمعنا، وتوضيح الرؤية فيما بيننا، وللرفع من إيقاع أدائنا كبرلمانيين عرب أشقاء برغم اختلاف مرجعياتنا المجتمعية والتاريخية والسياسية والفكرية وتباين تجاربنا البرلمانية وخصوصياتنا الدستورية والتمثيلية وممارستنا الديمقراطية، ذلك لأن هناك ما يجمعنا ويوحد مشاعرنا وقيمنا، ولأن مصالحنا العربية مشتركة، ومصيرنا واحد، والتحديات المطروحة علينا هي نفسها بل إن التهديدات هي نفسها. وبالتالي، فإن الحاجة هي نفسها بالتأكيد إلى وعي عربي جديد بمتطلبات المناعة وتحصين أمتنا العربية وضمان أسباب أمنها واستقرارها ووحدتها.
أصحاب المعالي والسعادة،
سيداتي سادتي،
أيها الإخوة الأجلاء،
إسمحوا لي أن أؤكد لكم – بكل وضوح - أننا لم نخطط لعقد هذه الدورة من أجل البحث عن موقع أو استثمار معيّن لإطارنا البرلماني العربي هذا لغاية قُطْرِية ضيقة. ولا شك أن الإخوة في قيادة وإدارة الاتحاد البرلماني العربي على علم بسيرورة استضافة هذا المؤتمر. ونحن سعداء باستضافته، جديرون بثقة ومحبة أشقائنا الذين شَرّفُونا بهذه الاستضافة وباستجابتهم التلقائية وتوافدهم الكريم. ولكننا في الوقت ذاته حريصون على أن تشكل هذه الدورة خطوة متقدمة وإضافة نوعية في عمل اتحادنا، الاتحاد البرلماني العربي، والرفع من وضعه الاعتباري وفعاليته وصورته في الساحة العربية وعلى المستوى الدولي.
في هذا الإطار، يهمني أن أؤكد على التزامنا في المملكة المغربية بتوجهات وتوصيات المؤتمر الثالث والعشرين الذي انعقد في القاهرة خلال شهر أبريل 2016، سواء منها ما يهم تطوير آليات عمل الاتحاد وتقوية حضوره السياسي والرمزي أو ما يتصل بقضايانا المشتركة، إِنْ على المستوى العربي أو في واجهة العمل البرلماني الإفريقي والإسلامي والدولي، وعلى الخصوص بذل المزيد من الجهود في خدمة ودعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضيتنا الأولى، القضية المركزية لأمتنا العربية، معتبرين أن السلام في الشرق الأوسط غير ممكن، والاستقرار غير ممكن بدون إقرار حل عادل منصف للشعب الفلسطيني، وذلك على أسس الشرعية الدولية والقرارات الأممية القاضية بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية التي احتلتها سنة 1967 وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو / حُزَيْران 1967 وعاصمتها مدينة القدس، والتأكيد على حق العودة وفق القرار الدولي رقم 194 الخاص بهذا الموضوع.
وإذ أتوجه بتحية إكبار واعتزاز إلى أشقائنا في فلسطين على مستوى صمودهم وحجم تضحياتهم في مواجهة يومية للعدوان الإسرائيلي غير المقبول قانونيا وأخلاقيا وإنسانيا والمدان دوليا، فإنني في الوقت نفسه أدرك – ولاشك أننا جميعا ندرك ذلك – أن أوضاعنا المتردية في الفضاء العربي تضعف بالتأكيد من مستوى حماية مكاسب الشعب الفلسطيني ودعم صموده وكفاحه الوطني المشروع. كما أن استمرار تمزق الوحدة الفلسطينية يزيد من تعقيد مهام ومسؤوليات إخوتنا في القيادة الوطنية الفلسطينية؛ وهو ما يتطلب منا جميعا إيلاء الاعتبار للجبهة الداخلية الفلسطينية، كل من موقعه وحسب إمكاناته المتاحة. وأعتقد أن الاتحاد البرلماني العربي وإطارات العمل العربية، الرسمية والشعبية على السواء، بإمكانها أن توفر الحد الأدنى الضروري من الممكنات الملموسة والفعالة لدعم أشقائنا الفلسطينيين والمساهمة في حماية القدس من كافة وقائع واحتمالات الخطر القائمة التي تمس بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في هذه المدينة المقدسة.
وفي هذا الأفق، نتابع سيرورة التطورات في عدد من أقطارنا العربية، وبالخصوص في اليمن الشقيق حيث نثمن عاليا مختلف الجهود الدولية وكذا التحالف العربي بقيادة إخوتنا في المملكة العربية السعودية لحل الأزمة في اليمن بالطرق السلمية وطبقا لقرارات المنتظم الدولي. ولست في حاجة إلى التعبير مجددا عن جدية وقوة انخراط المغرب في هذا المسعى السلمي حفاظا على وحدة واستقرار الشعب اليمني الكريم، وتثمين مختلف الجهود العربية والأممية الهادفة إلى وضع حد للصراع الدائر هناك آملين إن شاء الله تعالى أن يستعيد أشقاؤنا في اليمن العافية وأجواء السلام المنشودة واسترجاع الشرعية لقيادة البلد وتحقيق اختياراته في البناء والتنمية والوئام والرفاه.
وبالروح ذاتها، نتطلع بآمال عريضة إلى مختلف المبادرات الدولية والإقليمية التي من شأنها ضمان السبل الكفيلة بتحقيق أسباب السلم والأمن والاستقرار والازدهار لشعوبنا العربية الشقيقة، واستثمار مُقَدَّراتها وإمكانياتها في التنمية والبناء المستقبلي. ولعله من المؤسف حقا أننا كعرب مازلنا أبعد عن الاستثمار الحقيقي لإمكانياتنا وخيراتنا وثرواتنا ورأسمالنا المادي والرمزي في تحقيق نهضة عربية، وتجاوز التعثر التاريخي والحضاري والثقافي والمعرفي الذي باتت أمتنا العربية تعاني منه. إن الوطن العربي يملك %55 من الاحتياطي النفطي العالمي، و%27.5 من الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي، واحتياطي هام جدا من الفوسفاط. كما يتوفر وطننا العربي على 33 ألف كلم من سواحل البحار والمحيطات في حين لا ينتج فقط سوى %2.6 من الإنتاج العالمي للأسماك، علما أن الرهان الكوني سيكون على المجالات والمنتجات البحرية. هذا فضلا عن أكثر من 16 ألف كلم من الأنهار، ومصادر هائلة من المياه، واحتياطات هامة من الحديد والثروات المعدنية المختلفة كما يمتد الوطن العربي على مساحة %9.6 من مساحة الكرة الأرضية، وذلك في موقع استراتيجي هام بين القارات الثلاث الأوروبية والإفريقية والأسيوية، بل ويتوفر على سوق هائلة من 370 مليون نسمة منها أكثر من 130 مليون من القوى العاملة. ومع ذلك، مازالت نسبة الأمية في وطننا العربي تصل إلى %19. كما أن الهوة التكنولوجية والعلمية والمعرفية تزداد اتساعا مع المجموعات المتقدمة في العالم المعاصر. ولم ندرك تماما معنى وقيمة التوجه نحو مشاريع استراتيجية كبرى عابرة للحدود العربية بدلا من الانغلاق داخل القطر الواحد بل عابرة للحدود العربية ذاتها نحو إفريقيا وآسيا وغيرهما، ونهج رؤية تنموية قائمة على التكامل والتضامن والتعاون بين المكونات العربية بدلا من التسابق والتنافس وافتعال الخلافات. ولنا في بعض المبادرات الجريئة والاستثمارات الناجحة والمشاريع الكبرى لعدد من دول مجلس التعاون الخليجي في بلدان عربية وغير عربية مثال جدير بالتنويه والتثمين والاقتداء.
وبهذا المعنى، أود أن أثمن التوجه الذي كان الاتحاد البرلماني العربي قد نهجه بالانفتاح على الإطار البرلماني الأفريقي، في أفق من الحوار والتعاون والتضامن وتنسيق الجهود والرؤى، وحرص على تبادل الخبرات والكفاءات، وتسهيل إمكانيات الإفادة والاستفادة على المستوى الاقتصادي وتبادل المصالح والمنافع. وهذا ما يقتضي تخطي مرحلة المجاملات والتعبير عن المشاعر الطيبة إلى بناء علاقات استراتيجية بين البلدان العربية والأفريقية يمكن أن تلعب البرلمانات في أفريقيا والوطن العربي دورا في إرسائها ودعمها والتحفيز عليها.
وأحسب أن ما حققه المغرب مؤخرا في الساحة الأفريقية، من خلال الدور الطلائعي الحيوي الذي قام به جلالة الملك محمد السادس حفظه الله وسعيه الكريم نحو علاقات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وروحية بعمق استراتيجي قائم على روح التعاون والتضامن والتكامل ومنطق (رابح-رابح)، أحسب أن هذا المنجز مكسب للأمة العربية كذلك وليس فقط للقارة الأفريقية. ذلك أن نجاح المغرب هو، بالتأكيد، نجاح عربي أساسا، ولن أضيف شيئا جديدا إلى معلوماتكم -أيها الإخوة الكرام- إن قلت إن هناك ما يكفي من معطيات وحقائق تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية واقتصادية ودبلوماسية واستراتيجية تجعل من أفريقيا عمقا مكينا للأمة العربية مثلما يشكل العرب عمقا وامتدادا أساسين للقارة الأفريقية وشعوبها الشقيقة والصديقة.
ومن هنا، أستحضر باعتزاز معالم الرؤية الاستراتيجية التي عبر عنها المغرب من خلال المواقف والتحركات الدينامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، خصوصا في خطابه السامي الذي ألقاه جلالته أمام أشقائه قادة دول مجلس التعاون الخليجي في 20 أبريل / نيسان 2016 في الرياض، وكذا كلمته السامية في الدورة 27 للقمة العربية الطارئة التي انعقدت في 25 يوليوز 2016 بنواكشوط، والتي رصدت أهم جوانب وملامح التأزم العربي الراهن.
وفي خطاب جلالة الملك في الرياض بالخصوص، تم الإلحاح بقوة وجرأة ومسؤولية على ما آلت إليه أوضاع المنطقة العربية منذ الفترة التي تم تقديمها كربيع عربي سرعان ما غدا خريفا كارثيا لم يخلف سوى الخراب والدمار والمآسي الإنسانية من جهة، ووضع اليد على خيرات عدد من بلداننا العربية، واستهداف بعض التجارب العربية الناجحة بل والمس بتميز نماذجها الموفقة والمستقرة كالنموذج المغربي الملموس من حيث استقراره، وتنويع شراكاته الاستراتيجية، وكذا من حيث اختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقراراته الحرة التي لا تحاسب أحدا على اختياراته الخاصة، والتزاماته تجاه أشقائه وشركائه وحلفائه.
ولم يفت الخطاب الملكي، في تلك المناسبة السانحة، أن ينبه إلى خطورة وضعنا العربي، بوضوح كامل وضدا على الخلط الفاضح في المواقف وازدواجية الخطاب بين التعبير عن الصداقة ومحاولات الطعن من الخلف.
قال جلالته : "إننا أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي. فالأمر واضح، ولا يحتاج إلى تحليل. إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية".
وأضاف جلالته : "إننا نواجه نفس الأخطار، ونفس التهديدات على اختلاف مصادرها ومظاهرها، فالدفاع عن أمتنا ليس فقط واجبا مشتركا بل هو واحد لا يتجزؤ".
وفي السياق نفسه أكد جلالة الملك "أن المخططات العدوانية التي تستهدف المس باستقرارنا متواصلة ولن تتوقف. فبعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشرق العربي، هاهي اليوم تستهدف غربه".
والواقع أنني أستحضر شهادة جلالة الملك لاقتناعي بأن أخلاق المسؤولية العربية تقتضي، اليوم، أن نسمي معضلاتنا العربية بأسمائها، وأن نواجهها بالتشخيص الموضوعي والتحليل الجريء، وبما يقتضيه الموقف التاريخي من صدق وحقيقة وإرادة مشتركة ووعي جماعي بالتحديات والتهديدات والمخاطر، إِنْ على مستوى الظاهرة الإرهابية، خصوصا منها ما يمس بسمعة الإسلام والمسلمين، ومظاهر العنف الطائفي والمذهبي في بعض أقطارنا العربية أو حجم المغالطات الفكرية والدينية التي باتت رائجة في فضائنا الثقافي والإعلامي والسياسي.
ولي اليقين بأن الاتحاد البرلماني العربي، إن نجحنا في تقوية آليات عمله واستكمال هياكله والالتزام بما أقررناه ونُقِرُّه جماعيا داخل مؤتمراته وأجهزته، لقادر على الإسهام في استنهاض الهمم العربية وتصويب الاعوجاجات والتأثير في صناعة القرار العربي الرسمي بما يرقى إلى مستوى طموحات أمتنا العربية من الخليج إلى المحيط، والاستجابة لتطلعات أجيالها الجديدة. وما ذلك على الله بعزيز إن خَلُصَتِ النوايا وامتلأت الروح العربية بالصدق والنزاهة والجرأة الأخلاقية المنشودة.
وختاما، يقتضي المقام – وأنا أجدد الترحيب بأشقائي جميعا – أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى قيادة الاتحاد البرلماني العربي وأمانته العامة وأطره وجميع العاملين في إدارته.. كما أغتنم الفرصة لأعبر لمعالي الرئيس الأخ نبيه بري عن أصدق تعازينا القلبية في وفاة قريبته رحمها الله، مما اضطره إلى التغيب للأسف عن هذه الدورة آملا أن يمتعه الله تعالى بموفور الصحة والعافية ويوفقه في مهامه الوطنية الحافلة على رأس مجلس النواب في جمهورية لبنان الشقيقة.
شكرا لكم على كرم الإنصات وفضل الاهتمام.
وأتمنى لمؤتمرنا هذا كل النجاح والتوفيق، ولاتحادنا المزيد من النتائج والمكاسب الطيبة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.