تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة السيد الحبيب المالكي رئيس الاتحاد البرلماني العربي في افتتاح أشغال قمة رؤساء البرلمانات العربية المنعقدة بالرباط لبحث قرار الرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس.

14/12/2017

زملائي أَصحابَ المعالي رؤساء البرلمانات العربية الشقيقة،

أصحابَ السعادة رؤساء الوفود،

السيد الأمين العام للاتحاد،

أصحاب السعادة سفراء الدول العربية،

أيها الحضور الكرام،

 

يقتضي المَقَامُ أَولاً أَن أُحَيِّيَ حُضُوركم الأخوي الكريم في هذه القمةِ البرلمانيةِ العَرَبية، هُنَا في بَلَدِكم الثاني على أَرضِ المملكةِ المغربية، وذلك تلبيةً لنداءِ الواجبِ القَوْمي وتقديراً للرسالةِ السياسيةِ والأَخلاقيةِ والمبدئيةِ التي يتحملُ أَمانَتَها البرلمانيُّ العَرَبي بضميرٍ حيٍّ، والتزامٍ نزيهٍ، وحِرْصٍ بلا حدود على حاضِرِ الأمةِ العَرَبيةِ ومُسْتَقْبَلِها، وإِدراكا للمخاطِرِ المُحْدِقَةِ بوُجُودِهَا ومصيرِها.

وأَوَدُّ أَن أَشْكُرَكُم جميعاً، وأَشُدَّ على أيديكم جميعاً، لِتَجَاوُبكم مع دعوةِ رئَاسةِ الاتحاد البرلماني العَرَبي التي بَادَرَتْ إِلى عَقْدِ هذه القمة الطارئة، وذلك في أَعْقَابِ القرار الذي اتَّخَذَهُ الرئيس الأمريكي بنَقْل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى مدينة القدس، واستجابةً لنداءَاتِ بَعْضِ أَعضاءِ الاتحاد البرلماني العربي ولآفاقِ الانتظارِ والإِلحاحِ والمطالبةِ الشَّعْبيةِ العربية من الخليج إِلى المحيط، ومن المحيط إِلى الخليج حيث ارتفعتْ أَصواتُ أمتنا غاضبةً، رافضةً، شَاجِبَةً هذا القرار الأمريكي الشَّاردَ خارجَ الواقع، المُجَانِبَ للصوابِ والحكمة، المُضادَّ للمنطق التاريخي، المنحاز لطَرَفٍ ضِدَّ طَرَفٍ في مسار المفاوضات التي يُفْتَرَضُ أن الولاياتِ المتحدةَ الأَمريكية تَرْعَاهَا وتَتَصرَّفُ فيها كَحَكَم أَساساً.

من المؤسِفِ أن الإِدارةَ الأمريكية اختارتِ الاختيارَ الخطأ بل واختارت للإِعلان عنه الزمنَ الخطأ أَيضاً ؛ فَعَلَى بعد أَيامٍ فقط من إِحياءِ المنتظَم الدولي لليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وفي الذكرى المائوية لوَعْدِ بلفور سَيِّءِ الذِّكْر، جاء قرار الرئيس الأَمريكي بإِعلان مدينةِ القدس عاصمةً لإِسرائيل ونَقْل سفارة بلاده إليها. وهو قرارٌ سَارَعَ العَالَمُ بأَسْرِهِ – باستثناء إِسرائيل – إِلى رَفْضِهِ وشَجْبِهِ وإِبراز مَخَاطِرِهِ على السِّلْمِ والأَمن والاستقرار في منطقةِ الشَّرْقِ الأَوسط وفي جِهَاتِ العَالَم الأَرْبَع.

وواضح جدّاً من ردّ فعل أَشقائنا الفلسطينيين الرافض بقوة، ومن موقف منظمة التعاون الإِسلامي، ومن رسالة جلالةِ الملك محمد السادس من موْقِعِهِ كرئيس للجنة القدس المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، باسْمِ سَبْع وخمسين دولة وأكثر من مليار مواطن، ومن موقف الاتحاد البرلماني الدولي الذي اعتبر أن القرار الأمريكي يقوض الوضع القانوني والسياسي لتسوية سلمية بين إسرائيل وفلسطين، مشيراً إلى أنه سيكون لهذا القرار عواقب على عمليات السلام في الشرق الأوسط، ومن الجامعة العربية وقادة العالم العَرَبي، ومن موقف الشارع العَرَبي بمجموع مكوناتِهِ ومرجعياتِه وعائِلاتِهِ العقائدية والفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وكذا موقف الأمم المتحدة، وموقف الاتحاد الأوروبي، وموقف الجمعيتين البرلمانيتين المتوسطية والأسيوية، وكذا المخاوف التي أَبداها قداسةُ البابا، والموقف الصيني، والموقف الروسي، والموقف الفرنسي، والموقف البريطاني... وغيرها من المواقف الرافضة أو المتحفظة، واضحٌ من ذلك كُلِّه أَن هذا القرارَ الأَمريكي مُسْتَفِزٌّ لإِرادةِ المجتمع الدولي، مُسْتَخِفٌّ بمنظمة الأمم المتحدة وبقرارات مجلس الأَمن العديدة المتَعَلِّقة بالقدس، خصوصاً القرارَيْن 476 و478 الصادرَيْن في سنة 1980، والتي تؤكد على عدم جَوَازِ  اكتسابِ الأَراضي بالقوة، واعترافِها بالوضع الخاص للقدس، ومدى الحاجة إلى حمايةِ الأَماكنِ المُقَدَّسةِ في هذه المدينة، وإِلحاحِها الملموس على أن جميع التدابير والإِجراءات التشريعية والإِدارية التي تُتَّخَذُ من طرف سلطات الاحتلال، بهدفِ تغييرِ  طابعِ ومركزِ مدينةِ القدس ليس لها شرعية قانونية. كما رفضت قراراتُ الأممِ المتحدة سنة 1980 بالأَخص ما سَنَّتْهُ إِسرائيل في قانونٍ أَساسي بشأنِ ضَمِّ القدس إِليها، واعتبرته المنظمةُ الأممية انتهاكاً للقانون الدولي، ودعت جميعَ الدولِ الأعضاءِ إِلى عدمِ قَبولِه وعدمِ الاعتبارِ بهِ وبأيِّ إِجراءاتٍ أخرى تَسْعَى إلى تغيير طَابَعِ القدسِ ومركزِها. والأَساس، أن مجلس الأمن، في قراره الأَخير 2334 الذي تَمَّ تَبَنِّيه سنة 2016، أَكَّد على أَنه "لن يعترفَ بأيِّ تغييراتٍ في خطوط الرابع من يونيو-حُزَيْران 1967، بما في ذلك القدس، إلاَّ في حدودِ ما يتفقُ عليه الطَّرَفان".

وفي المُحَصِّلة، فإِن القرارَ الأمريكي الذي وَقَّعَهُ الرئيسُ الأمريكي المُخَالِفَ للشرعيَّةِ الدولية، وللقانونِ الدَّولي بَاتَ معزولاً سياسيّاً ودبلوماسيّاً وأَخلاقيّاً، ولن يكونَ له أَيُّ أَثَر قانوني، ولن يُغَيِّرَ من صِدْقيةِ وقوةِ وصلاحيةِ القانونِ الدولي في تَطَابُقِه مع الواقع التاريخي والواقع الملموس على الأَرض الذي تسعى إِسرائيل والولاياتُ المتحدةُ الأَمريكية إِلى تغييره قَسْراً وعُنْوَةً.

إن القرارَ الأمريكي قَرَارٌ ظالِمٌ.

إِنَّه قرارٌ يقَوِّضُ أُفُقَ السلام، ويهدفُ إِلى وَأْدِ الحَلِّ القائمِ على إِمكانيَّةِ وُجُودِ دَولَتَيْن.

إِنه قرارٌ ضِدَّ القانون، ضد العقل، ضد المنطق، ضد التاريخ وضد المستقبل.

إنه قرارٌ ضد حقِّ الشعب الفلسطيني الثَّابِتِ المشروعِ بِمُسْلِمِيهِ ومَسِيحيِّيهِ على السواء، ضد الأمة العربية، وضد الأمةِ الإسلاميةِ ككل.

إنه قرارٌ  يُمْليهِ الإِحساسُ بالقُوةِ وليس الإِحساسُ بقُوةِ الحُجَّةِ وقوةِ الحَقّ.

إِنَّه قَرارٌ  يُنْذِرُ بحالةِ حَرْبٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ لا أحد يعرفُ أو يُدْرِكُ مَداهَا. ولا يبشِّرُ مطلقاً بأيِّ أفقٍ للسلامِ كما يزعمون.

وقد علَّمنا التاريخُ للأَسف أَن الحُرُوبَ تبدأ بالاستفزاز، وبالقرارات التي تَنْقُصُها الحِكمةُ، وبالجُمُوحِ الشَّخصي، وبالخطوةِ التي تُوصَفُ عادةً بكونِـها " خطوةً رمزيةً أو محدودةً " بينما تكون في حقيقتها وجوهرِها وأبعادِها خطواتٍ مُبَرْمَجَةً في استراتيجيةٍ مُتَكَتِّمَةٍ لها خرائِطُها وطُرُقُها وأهدافُها ورهاناتُها.

إنَّ أَخْطَرَ ما في هذا القرارِ غَيْرِ محْسُوبِ العَواقِبِ ليس فقط أَنه سَيُطْلِقُ أيدي الإِسرائيليين في نَهْبِ ومصادرةِ الأراضي الفلسطينية وإِقامة المزيد من المستوطناتِ عليها، وإنما هو قرارٌ يَحْلُمُ بأَن يُصَادِرَ حُلْمَ الفلسطينيين وحَقَّهُم في استقلالهم وبناءِ دولتهِم الوطنية وعاصمتُـها القدس.

وذلك مَعْنَاهُ، أيها الإخوة والزملاء الأجلاء، بكُلِّ بساطةٍ أن الولايات المتحدة الأَمريكية لنْ تَبقى – منذ اليوم، ومنذ هذا القرار بالذات - مؤهلةً لرعايةِ المفاوضاتِ بين أَطرافِ الصراع وحمايةِ وتوفيرِ متَطَلَّباتِ السلام وَشُرُوطِهِ.

ذلك معناه أَيضاً – كما قال جلالة الملك محمد السادس رئيسُ لجنةِ القدس في رسالةِ لَفْتِ انتباهٍ إلى الرئيس الأمريكي السيد دونالد ترامب – "أن مدينة القدس، بخصوصيتِـها الدينيةِ الفريدةِ وهويتِـها التاريخيةِ العريقة، ورمزيتِـها السياسيةِ الوازنة، يجب أن تبقى أرضاً لِلتَّعايُشِ والتَّسَاكُنِ والتَّسَامُحِ بين الجميع". كما ينبغي أَن تظل على حالها في عمق المفاوضاتِ الفلسطينية الإِسرائيلية مُنْدَرِجةً في صُلبِ قضايا الوضع النهائي.

إن واجِبنا الأَخلاقي والسياسي كبرلمانيين، وكبرلمانيينَ عَرَب أَساساً، يُمْلي علينا أَن نكونَ في قَلْبِ هَذِهِ المعركةِ التي يَنْخَرِطُ فيها الآنَ عُقَلاءُ العَالَمِ وحكماؤُه وأحرارُه من أَجل حمايةِ الشرعيةِ والقانونِ الدَّوْليَيْن، ومنْ أجل اسْتِتْبَابِ السِّلْمِ العادِلِ الـمُنْصِفِ الشامل في الشرق الأَوسط، ومن أجل إِعَادةِ الحياةِ إلى مسلسل السلام الذي أعاقَتْهُ الغطرسةُ الإِسرائيلية وعطَّلَتْهُ إرادةُ إِسرائيل المُغْرِضَة التي تَرْفُضُ السلام وتَجِدُّ في الحدّ من أسبابِه وإِضعافِ آمالِه.

ومن هُنا، فإنَّ علينا في هذا المؤتمر، أن نُنصتَ لبعضنا البعض كقادة برلمانيين نُمثِّل إِرادةَ شعوبِنا وآمالَها وتطلعاتِها في أن تظلَّ مدينةُ القدس، بمركزِها الـمُقدَّس، عنواناً للسلامِ والتسامحِ والتعايشِ بين الديانات التوحيدية الثلاث، وأن يتحمَّلَ المجتمعُ الدولي وَاجِبَه في تحقيق حلٍّ جِدّي عادلٍ ونهائي لقضية الشعب الفلسطيني على أَساسِ الشرعيةِ والقانونِ الدولِيَيْن وقراراتِ مجلس الأمن ذاتِ الصِّلة.

هناك إِذن عملٌ ينتظرُنا تَفْرضُه طبيعةُ مسؤولياتِنا البرلمانية في كل المواقع والمنتديات والمحافل التي نتحمل فيها المسؤوليةَ أو نتوفَّر فيها على تمثيلٍ أو حضور.

لا يَنْبَغي أَنْ نَيْأَسَ من إِمكانياتِ عزلِ هذا القرار، والحَثِّ على تفادي تداعياتِه ومَخَاطِرِه، وحَمْلِ الإِدارةِ الأَمريكيةِ على التَّراجُع عَنْه.

وختاماً، لاَ يَنْبغي أن نتركَ إِخْوانَنا الفلسطينيين وحدَهم في هذه اللحظة المصيرية، ذلك لأنها ليست معركَتَـهُم هُمْ وَحْدَهُم فقط. ذلك أننا ندركُ جميعاً بأنه مثلما لا يمكن للفلسطينيين أن يكونوا فلسطينيِّينَ بدونِ أن يكونُوا عرباً، لا يمكن كذلك للعَرَبِ جميعاً أن يكونوا عَرَباً بدون أَنْ يكونُوا فلسطينيِّين.

فَسَفينَتُنَا واحدة،

ومَصيرُنا مشترك.

ولا حاجةَ إلى أوهامٍ خادِعةٍ في علاقاتِ العرب بواقعهم الملموس وبوجودِهِم كأمةٍ عربيةٍ مؤمنةٍ بتاريخِها وينبغي أن تكون واثقةً من مستقبلِها، مُلْتحمةً كالبُنْيَانِ يَشُدُّ بعضُهُ بَعْضاً : "كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مرْصُوص" (صدق الله العظيم).

 

 

                        والسلام عليكم.