تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة السيد الحبيب المالكي رئيس الاتحاد البرلماني العربي رئيس مجلس النواب المغربي في افتتاح الدورة 27 لمؤتمر الاتحاد البرلماني العربي

05/04/2018

القاهرة،  05 أبريل/نيسان 2018

القاهرة،  05 أبريل/نيسان 2018

أصحاب المعالي والسعادة،

السيد رئيس مجلس النواب في جمهورية مصر العربية،

السيدة والسادة رؤساء البرلمانات العربية،

السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية،

السادة الوزراء،

السادة السفراء،

السيدات والسادة رؤساء المنظمات الشقيقة والصديقة،

أيها الحضور الكرام،

 

يقتضي المقام أولاً أن أتوجه بالشكر والتحية والامتنان إلى الأشقاء في جمهورية مصر العربية على تفضلهم باستضافة المؤتمر العام للاتحاد البرلماني العربي في دورته السابعة والعشرين. والشكر موصول بالخصوص إلى أخي وزميلي د. علي عبد العال، رئيس مجلس النواب المصري، وكافة إخوتي في مجالس النواب والمستشارين والشورى والأمة على استجابتهم لدعوة رئاسة الاتحاد، وحرصهم الملتزم على تجشم عناء السفر إلى قاهرةِ الـمُعِزّ والحضور الفعلي في أشغال هذا المؤتمر الذي نتطلع جميعاً إلى أن يشكل محطة نوعية جديدة في مسار العمل البرلماني العربي ودعم آفاق الممارسة الديموقراطية في وطننا العربي من خليجه إلى محيطه.

ولاشك أننا جميعاً مغمورون بسعادةٍ خاصة ونحن نلتقي كأشقاء وكزملاء أبناء العائلة العربية الكبرى، وبالخصوص لكوننا نلتقي على أرض مصر العربية الكريمة المضيافة التي استقبلتنا بأذرع مفتوحة حاضنة، ورحبت بنا وجوهها الطيبة : "أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، آمنين إن شاء الله تعالى في مصر الآمنة المطمئنة الـمُسْتَهْدَفَةِ في أمنها واستقرارها ؛ وليس ذلك بلا سبب، وإنما لمكانة مصر الاستراتيجية في عمقنا العربي، ولقيمتها الاعتبارية والحضارية والتاريخية والرمزية والثقافية والفكرية، ولكونها شكلت دائما حصناً واقياً لكيان الأمة العربية، داعماً لوحدةِ الصف العربي، ولصمود الإرادة العربية. وإننا بالمناسبة لَنُحَيِّي شعب مصر الشقيق وقيادته الوطنية وعلى رأسها فخامة الرئيس المشير عبد الفتاح السيسي الذي نُهنِّؤُه على فوزه بثقةِ شعبه وبالشرعية الانتخابية والالتفاف المؤسساتي بعد الالتفاف الجماهيري لمختلف شرائح ومكونات الشعب المصري.

وبالمناسبة، ينبغي أن نندد مجدداً بالعمليات الإرهابية الآثمة التي استهدفت مصر الشقيقة مثلما استهدفت ولا تزال بلداناً عربيةً أخرى كالبحرين والمملكة العربية السعودية التي كانت هدفاً لصواريخَ مُعاديةٍ استهدفت في فترةٍ سابقةٍ الأماكن المقدسة في مكة المكرمة.

ومرةً أخرى، لايسعني باسم الاتحاد البرلماني العربي إلا أن أُعَبِّر عن إِدانتنا الجماعية لِظاهرةِ الإرهابِ بكل أشكالها ومظاهرها التي تستهدف الأمة العربية ومقوماتِها وأُسُسَ استقرارِها وأمنِها.

وفي السياق نفسه، ندين بشدة ما أقدمت عليه سلطات الاحتلال الاسرائيلي في ذكرى يوم الأرض الثاني والأربعين من قتل لأبناء الشعب الفلسطيني في حلقة جديدة من إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل على الشعب الفلسطيني الأعزل. وكما أكدنا في البيان الذي أصدرناه قبل أيام، فإننا نطالب المجتمع الدولي بتوفير الحماية الدولية العاجلة للشعب الفلسطيني وضمان حقه في كفاحه المشروع من أجل استرجاع حقوق وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها مدينة القدس. كما نطالب أيضا المجموعة الدولية بإجراء تحقيق نزيه ومحايد بشأن المجزرة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الاسرائيلي بما يترتب عن ذلك من آثار قانونية وسياسية.

 حضرات السيدات والسادة،

أيها الحضور الكرام،

 

إن مؤتمرنا هذا لَيَنعَقِدُ في سياق دولي تدركون جميعاً مدى تعقيداتِهِ وتطوراتِهِ المتسارعة، والتي لاتحمل إلى ساحتنا العربية سوى المزيد من التعقيد والمصاعِبِ والمخاطر، بل وتجعل وضعنا العربي يبعثُ في الكثير من مظاهره على الأَسف، ويكاد يُحوِّل أمتنا العربية إلى شِبْهِ أمةٍ مَتْحَفية عاجزة عن الإِسهام في صنَاعَة القرار العالمي أو على الأقل التأثير في صناعته وتوجهاته.

والمؤسف حَقّاً أننا نكاد نكون عاجزين أَيضاً عن الإمساك بعناصر التشخيص السليم لأَوضاعنا ولآفاقنا كعرب أشقاء نقتسم الأَلَمَ نَفْسَهُ، والأَملَ نَفْسَه، وذلك لأن المفاهيمَ الحالية التي نستعملها في التحليل والفهم أصبحت عاجزةً عن إدراك واقعنا الحقيقي بل أصبحت هذه المفاهيم والرؤى مُتَجَاوَزةً وتَحْجُبُ الرؤية. وهاهو الواقع الملموس الذي نَعيشُه جميعاً داخل الجغرافيا العربية يُكَذِّبُ كُلَّ ما نَقُولُه، إذ نفتَقدُ عموماً الحدَّ الأَدنى من الالتزام بما يتم الإِعلان عنه في عَجْز واضح عن أَخْذِ زمام المبادرة، والتحكمِ في مجرى الأحداث، والوقوفِ في وجه المؤامرات الخارجية التي باتت تستهدف كيانَ أمتنا العربية، ومخططات التقسيم التي تتهدد عدداً من الأَقطار العربية الـمُوَحَّدة، وذلك بعد أَن خَلَّفت المرحلة الاستعمارية البَغِيضَة ما خَلَّفَتْهُ من تَمزُّقَاتٍ وتقسيماتٍ وتقطيعاتٍ خرائطيةٍ مؤلمة لم تتوقَّف تداعياتُها حتى اليوم. ناهيكُمْ عما زرَعَتْه هذه المرحلةُ الكولونيالية من جُسُوم غريبة، والتي كانت نتاجَ مَرَاحِلَ تاريخيةٍ مؤسفةٍ عرفتْ فيها أُمتُنا حالةً من الضَّعفِ والهزيمةِ والتفكُّكِ في الصفِّ والكلمة.

وهانحن لانزال نؤدي الضريبةَ تِلْوَ الضريبةِ، وبكُلْفَةٍ عاليةٍ.

 

لدينا الثروات، لكننا لانتحكم فيها. ولدينا إِمكانيات مادية، لكننا لانستعملها على النحو الصحيح. ولدينا موارد بشرية هائلة، لكنها مُعَطَّلَة. ولدينا آمالٌ وأحلامٌ وتطلعات مشروعة وواقعية وقابلة للتنفيذ، لكننا لانعرف كيف نُحقّقُها.

إن الحيرةَ شاملة لدى نُخَبنا الفكرية والسياسية على السواء، ومظاهر النقص بارزة في مسارات التنمية والبناء الديموقراطي، وهناك تعثرات في أنظمتنا التعليمية والتربوية، في حقل المعرفة والبحث العلمي. كما أن هناك عثرات حقيقية على مستوى إشاعة ثقافة النوع وإنصاف النساء، وإيلاء الاعتبار اللائق الملموس والجدِّي لتطلعات واهتمامات الشباب. ومازال أمامنا كعرب فصل طويل لتمكين الأفراد والجماعات من حاجيات التعليم والصحة والشغل بل من حقهم الكامل في المشاركة السياسية وفي صنع القرار، وفي السلطة على أسس مؤسسية دستورية، قانونية، شرعية وسلمية.

ومازال مطروحاً علينا أن نقرأ، بدقة وموضوعية، التطورات التي عاشتها – ولاتزال – منطقتنا العربية منذ سنة 2011، وما أظهرته بالخصوص من فجوة بين الإمكانات المتاحة والسياسات المتَّبَعة، بين القاعدة الديموغرافية الشبابية الواسعة والرؤية السائدة في بلدان أكثر من نصف سكانها من الشباب أقل من 30 سنة الذين أصبحت لهم رؤىً جديدة، وتعبيرات مختلفة، ووسائل وشبكات وتطبيقات تواصل متطورة ومتسارعة ومعقدة.

إن العجز التنموي في وطننا العربي مثير للقلق، والمقلق أكثر أن يتلازم التعثر الاقتصادي والاجتماعي والثقافي مع أنواع من ضعف الإشراك السياسي واستباحة الخارج وتجاوزاته وتدخلاته غير المقبولة. وذلك ما يضاعف من أسباب الصراع المجتمعي في عدد من أقطارنا، ويفجر استقرارها، ويَمَسُّ بأَمْنِها وأَمانها، ويعمق اليأس في نفوس أبنائها وبناتها، ويهيء التربة الملائمة للتطرف والغُلُوِّ والعنف الرمزي والمادي وبالتالي للإِرهاب وصناعة الموت.

مع ذلك، مازلنا قادرين على تحقيق الحد الأدنى من اللقاء والتواصل والحوار والتوافق داخل البيت العربي، وهو ما يظهر في قراراتِ الجامعة العربية، وما يجسدُه الفضاءُ البرلماني العربي الذي صنعناه لأنفسنا، بإرادتنا الموحَّدة والـمستقلة، بوعينا المشترك وبضمائرنا الحية الصاحية، وأيضاً ما نَلْمَسُهُ في عَدَدٍ لابأس به من الإطارات والمنظمات العربية ذات المصداقية التي نتكامل معها، وننسق معها الجهود، ونُدَبِّر الخيارات العربية السليمة، وذلك رغم إدراكنا الموضوعي لحالة الانقسامات في وضعنا العربي، ولطبيعة التجزئة التي نراها هنا وهناك، ولحجم التناقضات السائدة، فضلاً عن وَطْأَةِ الاستراتيجيات الدولية وتَدَخُّلاتِ الخارج المتَطَفِّلَة، واختلال موازين القوى العالمية والإقليمية، والتسابق الدولي في المنطقة العربية على المصالح ورسْم السياسات بديلاً عن الإِرادة العربية واستهداف القوة الممكنة للتضامن العربي ولتوحيد الصف والكلمة العَرَبِيَّيْن، والحيلولة دون آفاق تشجيع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية البَيْنِية العربية أو إمكانية نشوء سوق عربية مشتركة.

والحالةُ اليوم غيرُ مُطَمْئِنَةٍ – للأسف – في ظِلِّ هذه التحديات والمخاطر، وفي ظل حالاتِ من التراجع والتردد في تحقيقِ التنميةِ المنشودة والنهوض العربي الذي طالما كان يحلم به روادُ النهضةِ الفكرية العربية ولايزال يدعو إليه عَدَدٌ من مفكرينا ومثقفينا وأكاديميينا العرب الذين يمثلون بُؤَرَ ضوءٍ واستنارةٍ عقلانية، أولئك الذين ينتجون أَفكاراً نقديةً قويةً ولايعثرون على إِمكانياتٍ لِتَجْسِيرِهَا مع سُلْطَةِ القرار العربي، وما أحْوَجنا اليوم إلى أن نوفّر حَدّاً أدنى من إِمكانية هذا الجِسْرِ المطلوب !

ولي اليقين أن إِطارات العمل العربية، كجامعة الدول العربية ومؤسساتها الموازية والاتحاد البرلماني العربي بكل مكوناته الحيوية وعدد من المؤسسات المَدَنية والأَهلية العربية ذات المصداقية، بالرغم مما تتعرض له من انتقادات موضوعيةٍ أحياناً أو ذاتيةٍ ظالمةٍ أحياناً أخرى، لاتزال توفر لأمتنا أَدواتٍ ممكنةً للإبقاءِ على اللُّحْمة العربية قائمةً، وعلى أفق ممكن لحماية المصالح العربية والتعبير عن إِرادةِ رأيٍ عام ووعي شعبي حقيقي.

أحياناً تَسْخَرُ أو تَسْتَخِفُّ بعضُ المنابر والأَصوات من إِصدار البيانات والبلاغات العربية، والحال أن استمرارَ وجودِ إطاراتِ عملٍ عربية لاتزال تجمع هياكِلَهَا وقياداتِها بانتظام للحوار والإِنصات وتَبادُلِ الرأي وإِصدار بيانات لَيُعْتَبَر في حَدِّ ذاتِهِ مَكْسَباً ينبغي الحفاظ عليه، لأن أخشى ما أخشَاهُ أن يأتيَ يومٌ لا تُصْبح حتى هذه الإِمكانيةُ ممكنةً.

ومن هُنا، فإذا كان مانراه وما نلْمَسُه في وضْعِنا العَربي الراهن لايمثل أمراً جديداً أو استثنائياً، ونعرفُه جميعاً، ونمتلك حوله تقريباً التشخيصَ نَفْسَهُ، فإِن علينا أن نجدد مفاهيمنا، ونوحِّد خِطابَنَا، ونقتسمَ الرؤيةَ نَفْسَها إِلى مستقبلِنا ومصيرِنا. والمنطلق هو أن نَصُونَ أولاً فضاءات التواصل والحوار الشعبية والرسمية مثل هذا الفضاء البرلماني العربي الذي تشرفتُ بتحمل مسؤوليته الأولى على امتدادِ السنةِ الماضية وستؤول هذه المسؤولية اليوم إِن شاء الله إلى مصر ومجلس نوابها في شخص أخي العزيز الموقر السيد الرئيس د. علي عبد العال طبقاً لمقتضيات ميثاق الاتحاد البرلماني العربي وللأعراف السائدة المَرْعية بيننا في الاتحاد.

ولا أريد، هُنَا والآن في حفل الافتتاح، أَن أقدم حصيلة الفترةِ التي تحملتُ فيها هذه المسؤوليةَ الجسيمةَ حَقّاً بثقلها السياسي والدبلوماسي البرلماني وبأبعادها الرمزية والأَخلاقية، ففي جلسات العمل المغلقة ستتفضل الأمانةُ العامة للاتحاد البرلماني العربي بتقديم تقريرٍ تفصيلي عما تمكَّنَا من إِنجازه، خصوصاً ما يتعلق بأداء واجبنا التاريخي والتزامنا العربي في الدفاع عن القضية الفلسطينية والمساهمة في تعبئةِ شَعْبِنا العربي من أجلها، واستمالة أحرار وشرفاء العالَم في وقف مخاطِرِ وقرارات الغطرسة الإسرائيلية والتهديدات المُحْدِقَة بالقُدْسِ الشريف ومركزِه ومقَدَّسَاته التي نَتَشَرَّفُ في المملكة المغربية بكوْنِ جلالة الملك محمد السادس يرأس لجنَتَها في إِطار منظمة التعاون الإسلامي.

وأعتقد أَن علينا دائماً، في إطار الاتحاد البرلماني العربي، أن ننظر إلى حصيلةِ ما ننجزُه جميعاً بمنظور سياسي في ظل أوضاعنا الراهنة، ومن تقديرنا لأهمية تحقيق الحدّ الأَدنى المشترك في غياب أو محدودية ثقافة وحدوية، وغياب استراتيجية عربية واضحة لمجابهة تحديات وأسبقيات القرن الواحد والعشرين، وبالخصوص متطلبات المعركة المصيرية العربية دفاعاً عن فلسطين وشعبنا العربي الفلسطيني وحقوقه الثابتة المشروعة في استقلاله الوطني وبناء دولته الوطنية وعاصمتها مدينة القدس.

من المؤكد أن الاتحاد البرلماني العربي في حاجة إلى المزيد من المأسسة، فقد استأجرنا مقرّاً في بيروت، بعد أن انتقل مقر الاتحاد من دولة المقر السابقة إليها حيث تفضل أشقاؤنا في مجلس النواب اللبناني ورئيسه دولة الرئيس نبيه بري باستضافة الاتحاد بكرم وأريحية مشكورَيْن، ولايزال علينا أن نفكر في إنشاء مقر لاتحادنا وتوفير وسائل العمل الكفيلة بتسهيل مهام الأمانة العامة وإدارة الاتحاد. كما لايزال علينا أن نَجِدَّ في إصلاح هياكل منظمتنا وتحقيق فكرة معهد عربي للتكوين البرلماني ومؤسسات وهياكل أخرى موازية للاتحاد مرتبطة به، وذلك لنضمن المزيد من أسباب تقوية الحضور البرلماني العربي وسلطته الأدبية والأَخلاقية في التشريع وفي صناعة القرار العربي الشجاع السليم الملتحم مع إِرادة الشعوب العربية والمُعَبِّر عَنْها.

وتقتضي المناسبة، إذْ أغادر موقع المسؤولية الأولى على رأس الاتحاد البرلماني العربي في هذا المؤتمر، أن أتقدم بجزيل الشكر إلى السيد فايز الشوابكة الأمين العام للاتحاد البرلماني العربي ومساعديه وأطر الأمانة العامة في بيروت على قلتهم، والذين بَذَلُوا جهداً طيباً من العمل والأداء والمواظبة الصادقة، وكذا أطر وكفاءات مجلس النواب في المملكة المغربية الذين ساعدوني على أداء هذه المسؤولية العربية النبيلة والجسيمة.

وضمن مهامِّنا المستقبلية، علينا أن نواصِل العمل المشترك وتقوية التنسيق، وتنويع قنوات التواصل، وذلك بجعل لقاءاتنا ومؤتمراتنا منتظمة، واتخاذ مبادرات أخرى لتنظيم ندوات ولقاءات حول مختلف إشكاليات الساعة، وذلك لكي لايظل لقاؤنا يتم فقط عند الضرورة القصوى.

مع ذلك فإنَّ حِرْصَنَا على أن تكون وأن تظل لدَيْنا مِثْلُ هذه المؤسسات العربية، البرلمانية والحكومية والمؤسسات المستقلة التي يشيدها المجتمع المدني العربي، لاينبغي أن يُنْسِيَنا دروس ما سُمِّيَ بالربيع العربي، خصوصاً على مستوى إعادة النظر في بعض هياكل السلطة السياسية العربية التي ينبغي أن تتخلى عن أساليب وطرائق التدبير القديمة للقضايا والحاجيات والمتطلبات المجتمعية، وأن تنخرط فعليّاً في إِصلاح عمودي يبدأ من أعلى هرم الدولة العربية وصولاً إلى قاعدة المجتمع، وذلك من أجل تحقيق تنمية عادلة منصفة ومستدامة، مثلما يبدأ من إِعادة النظر في فِكْرِ السلطة ومركز القرار.

ينبغي طمأنَةُ المواطن العربي، وجعله يَشْعُر بأن مشاريع التنمية التي يُخَطط لها نابعة من إِرادته ومتجاوبة مع آفاق انتظاره، وأن هناك آليات مؤسسية حقيقية، يفترض أن لها شرعيتـَها ومصداقيتـَها، تتيح له أن يساهم فيها، وأن التهميش أصبح في ذمة الماضي، والإِقصاء لم يَعُد وارداً، وأن الأفق مفتوح للمشاركة والحوار والإنصات، وكذا لِتَقَبُّلِ الخيارات وتوسيعها.

 

حضرات السيدات والسادة،

زميلاتي زملائي الأجِلاء،

قبل أن أنهيَ كلمتي هذه، ينبغي أن نهنئ أنفسنا، كمجموعة جِيُّوسياسية عربية داخل الاتحاد البرلماني الدولي، على ما بذَلَه إِخوتُنا البرلمانيون العرب الذين حضروا الدورة الأخيرة (138) لهذه المنظمة الدولية في جنيف تحت الرئاسة الفعلية للأخ د. علي عبد العال، وبالخصوص الانتصار المدوِّي لفائدة القضية الفلسطينية، وذلك بالتصويت الصاعق ضد قرار «إعلان الإدارة الأمريكية حول القدس وتخفيض مساهمتها في موازنة الأونروا ومساعداتها الإنسانية للشعب الفلسطيني»، والذين تقدموا بطلبات إدراج بند طارئ في جدول أعمال الجمعية العامة الـ 138للاتحاد البرلماني الدولي والاجتماعات ذات الصلة في جنيف، في مبادرة من أشقائنا في الكويت والبحرين وفلسطين طبعا فضلاً عن تركيا من المجموعة الإسلامية، وهو ما يعني أن الممكنات الإيجابية الخلاقة لحماية الحق العربي، وللدفاع عن المصالح الحيوية العربية في العَالَم مازالت قائمةً طالـما تَحَرَّكْنا، وضَافَرْنا جُهودَنا، وتواصلنا مع أصدقائنا وحلفائنا من أحرار العالم وضمائره الصاحية الحيَّة. ما يعني كذلك أن الاتحاد البرلماني العربي يوفر إِمكانيةً أساسيةً للعمل والتنسيق والتضامن. وبالتالي، علينا أن نواصل جهودنا المشتركة صَوْبَ المستقبل، وأَلاَّ نَظَلَّ حَبِيسِي الاقتصادِ التقليدي للتعبير عن واقعنا الجديد.

إِننا في حاجة إلى تحرير إِرادتنا من الخطابات والقواعد والحساباتِ الرثة، إِذ ينبغي ألاَّ تكونَ هذه الإرادة مشروطةً بمظاهِرِ الواقع السائد الذي يبدو فيه كُلُّ شيء مستحيلاً، وإنما ينبغي أن تكون مشروطةً فقط بأَهداف المستقبل. وكما قال الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك ديريدا (Jacques Derrida) أن المستحيل نَفْسَهُ ممكن، ليس لأنه فقط قد يصبح ممكناً بل لأنه يكون كذلك في معناه الجذْري حيث يكون المستحيلُ   (l’im-possible) ممكناً كمستحيل. ومعناه، بكل بساطة – إذا سمحتُ لنفسي أن أُبَسِّطَ قاعِدةً فلسفيةً معقَّدةً كهذه – أن الإمكانية التي تجعل البعض يُحوِّل الممكن إلى مستحيل هي الإِمكانيةُ ذاتها التي يملكها (نظرياً على الأقل) من يَسْعَى إلى تحويل المستحيل إلى ممكن. وما أكثر المستحيلات في تاريخ الشعوب التي أصبحت ممكناتٍ بفضل الرؤية الوطنية الشجاعة المتبصرة، والوعي اليَقِظ، والضمير الحي، والإرادة الواثقة بنفسها وبالمستقبل !

شكراً لإِنصاتكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.