تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الرباط 26/06/1983:خطاب المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني في الدورة الاستثنائية

25/06/1983

ألقاه المستشار الملكي السيد أحمد رضا كديرة 

الحمد لله الصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه

(فالله خير حفظا وهو أرحم الراحمين)

(الطابع الشريف بدائرته)

(وبداخله الحسن الثاني بن محمد بن يوسف بن الحسن الله وليه)

شعبنا العزيز:

لقد كان همنا المتواصل منذ أن من الله على بلادنا بنعمة الاستقلال أن نسهر معتنين عناية فائقة حتى تكون ممارستنا لسيادتنا ممارسة كاملة شاملة، وكان هذا هو الهدف الذي تقصد إليه أساسا سياسة والدنا جلالة محمد الخامس رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

وهذا هو الهدف اتخذناه نحن من جهتنا منذ جلوسنا على عرش أجدادنا الاماجد، قاعدة جوهرية كنا ننطلق منها فيما كنا نقوم به من أعمال أو فيما كنا نعتزم القيام به. وإن إحاطة هذه السيادة بالاحترام والتقديس أية ما كانت الظروف وأية ما كانت طبيعة المشاكل التي كانت تواجهنا، لمن أسباب اعتزازنا ودواعي الافتخار المشروع لشعبنا.

ومن أجل ما للمغرب من مؤهلات وما له من موقع جغرافي وما له من تقاليد تاريخية فإن بلادنا كانت ولا تزال بلادا متفتحة على العالم تكره العزلة وتأبى الانطواء على النفس.

وهكذا فقد أدركنا منذ الزمن البعيد ما كان يمكن أن يعود على المغرب من عوائد حميدة بفضل تعاون دولي واسع يحترم بطبيعة الحال سيادتنا واختباراتنا الأساسية وحرية قرارنا المطلقة، وهذا التعاون إن أتاح لنا بمده وجزره فرصة مساعدة البلاد الصديقة المحتاجة إلى هذه المساعدة فإنه اسهم بحظ وافر من تطور المغرب وفى نموه المنسجم.

وهكذا أبرمنا معاهدات وعقدنا تحالفات و هاهو المغرب اليوم إلى هذا عضو من أكثر الأعضاء نشاطا وبصفات مختلفة في جميع المؤسسات الدولية التي تقصد بالذات إلى تنظيم التعاون بين الدول بغية ضبطه وتوجيهه الوجهة التي تلائم أكبر ملاءمة ما لكل واحد وما للجميع من مصالح. وإذا كانت محالفاتنا وانتسابنا إلى المنظمات الدولية تمنحنا حقوقا فإنها من جهة أخرى تفرض علينا واجبات.

وإن أحد الأسباب الرئيسية التي نشأ عنها رأس المال الذي توافر لنا والمصداقية التي نتمتع بها في رحاب العالم، لراجع إلى ما برهنا عليه باستمرار من احترام دقيق لالتزاماتنا. وهذه الالتزامات لم نأخذ بها أنفسنا فقط إلا ونحن مراعون لشيء واحد دون سواه ألا وهو مصلحة البلاد والأمة.

إن هذا العالم الذي نعيش في أرجائه والذي قررنا أن نتعاون معه قد مني خلال السنين العشر السالفة بصدمتين نفطيتين هزتاه هزا شديدا.

أولى هاتين الصدمتين التي نجمت عن حرب أكتوبر سنة 1973 إن كانت أحدثت رجة في معظم الأقطار فإن المغرب تحملها دون أن يتزعزع أو يتضرر، بل أن بنياتنا الاقتصادية وأوضاعنا المالية كانت سليمة، حتى أننا استطعنا أن نوفر رصيدا كبيرا من العملة الصعبة، ولقد حملنا حجم هذا الرصيد على التفكير بجد سنة 1974 عندما كان خديمنا كريم العمراني ووزيرنا الأول في إلغاء تشريعنا الخاص بالصرف والاستغناء تبعا لذلك عن مكتبنا للصرف.

بيد أن الصدمة الثانية أصابتنا- لسوء الحظ-، بعد ذلك بقليل وجاءت آثار هذه الصدمة الثانية التي انضمت إلى أثار الصدمة الأولى فألحقت اضطرابا شاملا بالاقتصاد العالمي وجعلت النظر يعاد حتى في نظام النقد الدولي، وتبين لأكثر الاقتصاديين والماليين تشاؤما أن سوء الوضع تجاوز تجاوزا بعيدا ما كانوا يتوقعون وحل محل الرخاء والازدهار النسبيين اللذين كانت تتمتع بهما أقطار عديدة، الركود الاقتصادي والتضخم المالي الذي يسير بسرعة في غالب الأحيان ولا تحمد أبدا عواقبه. لقد ضربت الأزمة ضربا عشوائيا ولم يسلم من ضربها أحد. إن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية وهما البلاد المصنعة الضاربة في التقدم بلغ عدد العاطلين فيهما وحدهما و 35 مليون عاطل. وإن في هذا العدد وحده لمؤشرات تدل دلالة صارخة على ما آل إليه الوضع الذي يتخبط فيه العالم ،أما البلاد النامية فإن الخبراء مجمعون على القول أنها تعاني اليوم أعظم أزمة عانتها منذ الركود الاقتصادي الذي ساد خلال الثلاثينات. وهذه البلاد التي كانت استدانتها من قبل وافرة لأن الاقتراض كان مصدر نموها الرئيسي قد اشتدت وطأة استدانتها وستزداد هذه الوطأة اشتدادا على توالي الأيام. وقد واجهت البلاد النامية المستوردة للنفط وستظل مواجهة ما تجمع وتضافر من آثار الركود الذي يصيب البلاد المصنعة التي تقلص مبادلاتها وتقيم حماية تزداد صرامة يوما بعد يوم ومن آثار مكافحة التضخم الذي كتفاقم به سعر الفائدة من آثار اختلال ميزان التبادل الناتج عن انخفاض الأسعار الحقيقية للمواد الأولية.

إن هذه الظروف الدولية المطبوعة كما سلف بطابع الركود انكماش أسواقنا في العالم وتصاعد الحمائية في الأقطار التي هي زبنائنا التقليدية كل هذا أصاب صادراتنا بأذى كبير وخاصة صادراتنا من الفوسفاط الذي تتألف منه ثروتنا الوطنية الرئيسية. وبعد أن بلغ ثمن الطن من الفوسفاط 60 دولارا سنة 1975 أصبح هذا الثمن لا يكاد يتجاوز اليوم 30 دولارا،هذا بالإضافة إلى أن الكميات المصدرة نقصت أحجامها بمقادر هامة. وإلى جانب ما للمحيط الدولي الشديد المعاكسة من هذه الآثار الجسيمة التي لم نسلم من واحدة منها، هناك آثار أخرى لا تقل عن الأولى فداحة أو أهمية وهذه الآثار خاصة بالمغرب.

لقد أصاب بلادنا جفاف تلاحق طوال سنين متوالية مستتبعا جميع العواقب التي يمكن أن تنزل بساحة بلد ما زال فلاحيا بصورة أساسية يعيش معظم سكانه مما تغله الأرض. وبفضل جهود مالية ضخمة كثيرة ما بذلناها إن لم نقل بذلناها باستمرار متمثلة في عملة صعبة استطعنا أن نخفف وطأة هذه الآثار وذلك بتأمين الاستجابة لحاجة المستهلكين.

وعلى هذا النحو أمكننا أن نجعل أفراد شعبنا في مأمن من خطر الافتقار إلى ما هو ضروري.

بيد أن هناك ما هو أهم وإننا لنقدر ما للنفط من وزن لأننا نعرف وطنية رعايانا وتمسكهم بما هو جوهري وما يعتبرونه شأنا مقدسا.

فمنذ قرابة سبع سنين نكابد حربا لا نريدها ولكن أعداء وطننا يفرضونها علينا قاصدين بذلك صراحة إلى بتر وحدتنا والإيقاع بسلامة ترابنا.

وإن الشعب المغربي الذي يؤدي ثمن هذه الحرب دون شكاة ولا أنين ليقف على بكرة أبيه موحد الصفوف مرصوصا وراء ملكه الساهر اليقظ على الوحدة والسيادة الوطنيتين.

وإن قواتنا، جميع قواتنا القوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والقوات المساعدة لتبرهن على روح للتضحية، ليس لها نظير، وعلى بذل النفس ونكران الذات وهي خصال تكسبها إعجاب العالم واحترامه. هذه القوات تضطلع بحراسة متصلة صيانة لوحدتنا وسلامتنا.

ويسرنا شعبنا العزيز أن نوجه إليها هنا من خلال نوابك تحية إكبارنا ونعرب لها من جديد عن اعتراف الوطن بالجميل.

تلك المعاكسات كلها وتلك الحتميات كلها لم تصرفنا عن الأهداف التي رسمناها لأنفسنا. ولقد اجتهدنا بادئ بدء أن لا نحمل شعبنا وخاصة الطبقة المحرومة منه أعباءها كلها. ثم واصلنا تطبيق مخططات نمونا لئلا يقف المغرب في طريق نموه ولئلا يحرم شعبنا من طموحه إلى التقدم والرقي.

وإذا كنا قد استطعنا أن نوالي في خضم الأزمة الدولية مواصلة نمونا فإننا مدينون بذلك. قبل كل شيء إلى أنفسنا وإلى مجهود كل فرد منا. وإننا مبتهجون بهذا الأمر إذ لا شيء أقوى إبرازا لوثاقة بنياتنا ولصحة التنظيم الذي جهزنا به بلادنا.
ويطيب لنا أن نصرح بأننا مدينون بذلك أيضا إلى جميل إدراك رؤساء الدول الاخوة والأصدقاء وإلى ما وجدناه لديهم باستمرار من روح التعاون. فما كانت تعوزنا مساعدتهم كلما ألحت علينا الحاجة إليها وكانت هذه المساعدة بالنسبة إلينا ثمينة.

هذا هو الوضع وهذه هي حالة البلاد، وهما معا متولدان من الظروف الدولية والظروف الخاصة بنا ولمواجهتهما فكرت حكومتنا في مجموعة من التدابير تقتضي مراجعة ميزانيتنا وبالتالي سن قانون تعديلي.

وبالنظر إلى مقتضيات دستورنا كان أمامنا طريقان ممكنان :

إما عرض التدابير المقترحة على نظر اللجنة المتخصصة لوجود البرلمان في فترة فاصلة بين الدورات واتخاذ بالتالي مرسوم قانون بعد ذلك.

وإما طريق دعوة البرلمان إلى عقد دورة استثنائية. ولأهمية الخطة الجديدة للتصحيح والضبط التي سيوكل أمر تنفيذها إلى حكومتنا فقد اخترنا بدون تردد الالتجاء إلى الدورة الاستثنائية.

وهذا الاختيار يعبر أساسا عن اهتمامنا باطلاع شعبنا بصورة متتابعة على العمل الذي نقوم به وعن حرصنا على أن يكون علمه محيطا اكثر ما يمكن بكل ما يمس من قريب أو بعيد حياته اليومية وكل ما يتصل بمصيره.

إن المناقشات التي ستدور بين أعضاء مجلسنا للنواب ستتيح ولا شك تبديد كل التباس إن كان هناك أي التباس وستسمح خاصة بالإضافة إلى هذا بأن يقدر شعبنا تقديرا صحيحا الحتميات التي تحاصرنا والأغراض التي نتوخاها من أهدافنا المنشودة.

إن التدابير المقترحة التي سيناقشها البرلمان ويوافق عليها سيكون لها وقع وآثار أكيدة في كثير من قطاعات نشاط بلادنا. ولكن ليطمئن شعبنا فعلى الرغم من صرامة هذه التدابير وهي صرامة أخف وطأة بكثير من الجهود والتضحيات المفروضة في رحاب المعمور على بلاد أخرى، حرصنا على أن تكون متوازنة حتى لا ترهن نمونا وحتى نبقى إبقاء تاما على جميع حظوظنا في انطلاق مستأنف للتوسع الاقتصادي وحتى نخفف الفوارق الاجتماعية جهد المستطاع.

إن غيرتك على وطنك شعبنا العزيز غيرة مثالية. فبفضل هذه الغيرة استطاع المغرب أن يتجاوز- غير متأثر بصدمة- مراحل كانت اكثر صعوبة من المراحل الراهنة. وهي الغيرة التي تنبض بها قلوب أفراد شعبنا الأوفياء أعضاء قواتنا الوطنية كافة وهم يكافحون ويسترخصون التضحيات كل يوم دفاعا عن أقاليمنا الجنوبية وصيانة لسلامتنا الترابية. وهي التي ستحرك مشاعرك ابتداء من اليوم وتحفزك. وعاطفة التضامن الوطني تندفع في قلبك إلى إدراك الأهمية والآثار القريبة والبعيدة لما نجد أنفسنا مضطرين إلى القيام به.

إن التوجيه الذي أصدرناه إلى حكومتنا وإدارتنا لمطبوع بطابع الوضوح والالتزام، وبناء على هذا فإن جميع الوسائل ستستعمل لتتابع البلاد مسيرتها في طريق نموها وليظل سليما نسيجنا الصناعي والاقتصادي الذي صنعناه بصبر وأناة .

نسأل الله- شعبنا العزيز- أن يمد نوابك بعونه ويلهمهم الصواب فيما هم مقبلون عليه من أعمال.

والسلام عليكم ورحمة الله

حرر بالقصر الملكي بالرباط في يوم الثلاثاء 15 شوال 1403 ه الموافق ل 26 يوليوز1989 م