في إطار زيارة العمل التي يقوم بها السيد الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب بدعوة من نظيره رئيس الجمعية الوطنية بجمهورية كوريا الجنوبية، نظمت جامعة Hankuk بالعاصمة سيول، وهي من أكبر الجامعات الكورية التي تضم مجموعة من التخصصات، لقاءا مفتوحا بين الأستاذ الحبيب المالكي وطلبة البكالوريوس في تخصص الترجمة باللغة العربية وبعض الطلبة من تخصصات اخرى بالإضافة الى حضور مجموعة من أساتذة الكلية، في موضوع: "منهج كوريا التنموي نموذج لاستلهام النموذج التنموي الجديد للمغرب".
خلال المحاضرة، عبر الاستاذ المالكي عن شعوره الكبير بالاعتزاز لمخاطبة طلبة غير عرب لكن يتقنون العربية، وهو الاعتزاز الذي يؤكد بأن تعلم اللغات هو جسر قوي يساعد على التفاهم بين الشعوب، وهو صلة وصل متينة جدا تقرب وجهات النظر، كما أكد المتدخل أنه باعتباره أستاذا وباحثا جامعيا لمدة طويلة يشعر بنوع من الغبطة وهو يسترجع مجموعة من الذكريات المرتبطة بالجامعة.
وقد أتاح هذا اللقاء للباحث ورئيس مجلس النواب بسط وجهة نظره كاقتصادي لمقاربة موضوع ذي أهمية بالغة بل وراهنية ملحة بالنسبة للمملكة المغربية خاصة وأن المغرب بصدد بلورة مسار تنموي جديد، يستكمل الإصلاحات السياسية والدستورية التي عرفتها المملكة، والتي يمكن أن تكون أرضية مشجعة لنهضة تنموية مفيدة لمختلف فئات المجتمع المغربي. حيث يعتبر السيد المالكي أن النموذج التنموي لجمهورية كوريا مثال مثير للانتباه، ويمكن ان يعتبر مصدر استلهام للمملكة في إطار بلورة نموذجها التنموي الجديد تجاوبا مع متطلبات الواقع المغربي وتحدياته المتعددة، والذي يمكن ان يترجم التعاون الوثيق بين البلدين.
وفيما يلي نص المداخلة كاملة:
"عزيزاتي الطالبات، أعزائي الطلبة، اخترت موضوعا يكتسي راهنية وأهمية كبيرة بالمغرب، موضوع له ارتباط مع التجربة الكورية، في المجال الاقتصادي، السياسي ثم المجال الثقافي، وهذا الموضوع يتعلق بأي نموذج تنموي يساعد على تعزيز التعاون على المستوى الدولي.
كما نعلم عانت كوريا الجنوبية منذ عدة عقود من اقتصاد ومجتمع فقير إلى الانطلاق نحو اقتصاد قوي، وبمجتمع متماسك، مجتمع يضمن حقوق المواطنة لا بالنسبة للنساء والرجال ولكن كذلك يضمن حقوق الشباب، وخير دليل على ذلك هو المنتوج الداخلي الفردي خلال الخمسينيات والستينيات لا يتجاوز 60 دولارا للفرد، في حين اصبح المنتوج الداخلي الفردي اليوم يتجاوز 30 ألف دولار، وهو التحول العميق في ظرف وقت وجيز من الناحية الاقتصادية، الامر الذي يطرح علينا كشعب صديق للشعب الكوري من جهة، ويسائلنا كمسؤولين سياسيين وكفاعلين اقتصاديين وكمجتمع مدني، حول الدعامات التي جعلت من كوريا أن تقوم بهذا، فهي معجزة حينما نتكلم عن الارتقاء بهذا المعدل من 60 دولارا إلى 30 ألف دولار في فترة 40 إلى 45 سنة تقريبا. إن هذا التحول الكبير الذي عرفته جمهورية كوريا يمكن ارجاعه حسب اعتقادي من حيث المقاربة العلمية والواقعية الى أربعة الأسباب:
1- السبب الأول: الدور المحوري لمهام الدولة. رغم المد والجزر فيما يخص كل ما له علاقة بحقوق الإنسان، وعامة بالبناء الديمقراطي، حيث عاشت كوريا امتحانا عسيرا في فترات معينة تحت ظل نظام دكتاتوري، لكن بالمقابل استطاعت الاستفادة من هذا الدرس القاسي كثيرا، واستخلصت كل الدروس الواجب استخلاصها، وقد لعبت دورا مهما في إطار ترسيخ ما يسمى باقتصاد السوق، واعتبرت دوما ان لها مهام استراتيجية أساسية، بالإضافة إلى كل ما له علاقة بالأمن والاستقرار، وجعلت محور تفكيرها ينصب أساسا على المستقبل، وكيف يمكن أن تكون عليه في الفترة المتوسطة القادمة (العشر سنوات الى العشرين والثلاثين سنة المقبلة) ، وهي المهام الاستراتيجية التي جعلت من هذه الدولة الكورية ان تضع مخططا في مجال التربية والتكوين، وبالتالي عملت على ضمان تكوين جيل جديد من الشعب الكوري المتعلم والقادر على رفع التحديات.
2- السبب الثاني: الانفتاح الخارجي. هذا العامل الأساسي والذي علينا أن نستفيد منه في المغرب، ويتعلق بانفتاح كوريا على العالم الخارجي ، بحيث ان 90 في المائة من اقتصادها هو منفتح على العالم الخارجي، وهو في نفس الوقت نتيجة لتكامل مختلف القطاعات المكونة للنسيج الاقتصادية، وفق منظومة مخدومة ومرتبطة ومندمجة لتحقيق الأهداف المرسومة، وهو الشيء الذي يؤكد بنوع من البساطة لكن بعمق ومؤسس جدا، والمتمثل في كوّن تنافسية الاقتصاد الكوري تنافسية قوية، والمنتوج الكوري منتوج ينافس عدة منتوجات في العالم (منتوجات أمريكية ، منتوجات ألمانية ، منتوجات إيطالية ، منتوجات فرنسية ... )، فهذه التنافسية نعتبرها من أهم العوامل والعناصر التي تجعل اقتصادا وطنيا مثل الاقتصاد الكوري، يتطور ويأخذ بعين الاعتبار، كل التقلبات التي يعرفها الاقتصاد العالمي، وهاته القدرة على التكيف مرتبطة بقدرة كوريا على جعل التنافسية منطلقا وكذلك نقطة نهاية، ولكنها نقطة نهاية متجددة . وعليه، فان التنافسية اليوم أصبحت هي السلاح القوي القادر على جعل المبادلات التجارية تتقوى وتكتسي حجما متصاعدا على المستوى الإقليمي وكذلك على المستوى الدولي. اما بالنسبة للمغرب، ورغم توفره على مخططات تنموية قطاعية مهمة جدا، لكن ليس هناك تنسيق متين بين هذه المخططات، فرغم تواجد برامج قطاعية لكن ليست هناك استراتيجية اقتصادية، والامر يتمثل في غياب إلى حد ما منظور شمولي لما يجب أن يكون عليه اقتصاد المغرب في العشر أو العشرين سنة المقبلة.
3- السبب الثالث: مرتبط بالتنافسية؛ اَي الإبداع في المجال العلمي والتكنولوجي. حسب المعطيات المعروفة، فالمجتمع الكوري هو مجتمع اتجه نحو الانتاج، لكن كوريا في نفس الوقت كان لها الفضل في تطوير إبداعها في إنتاجاتها خاصة في المجال الإلكتروني، وكذلك في مجال صنع السيارات وفي مجال المواصلات. فالقدرة على البحث على أساس الإبداع، هو الذي جعل من الاقتصاد الكوري اقتصاد له تنافسية على مستوى عال جدا. وانا أتذكر مجموعة من الدراسات التي تمت في الستينيات وحتى في السبعينات كانت كوريا وفق ادبيات البحث العلمي في مراتب بعيدة، الان في مجال البحث أصبحت تكسب درجات جد متقدمة ومعدل متقدم في كل ما له علاقة بالبحث العلمي والتكنلوجي، وهو له علاقة وارتباط بطبيعة النظام التربوي و التعليمي والتكويني، هذا النظام ينطلق من ما يجب ان يكون عليه المواطن الكوري في المستقبل، ويعتبر الاستثمار في ما نسميه نحن بالعنصر البشري، هو الركيزة الأساسية لنجاح ما يعيشه الشعب الكوري، وهو الركيزة الأساسية لهذه المعجزة مقارنة بما كانت عليه كوريا، أو بما كانت عليه الظروف المعيشية للشعب الكوري منذ 40 أو 45 سنة . وعلينا نحن كشعوب عربية وكشعب بالمملكة المغربية أن نستفيد من تجارب الآخرين في هذا المجال.
4- السبب الرابع: نوعي ويرتبط بمنظومة القيم. الأساس والمنطلق هو انه بدون قيم ليست هناك تنمية، بدون قيم من الصعب جدا أن يكون البناء متين، وبدونها أكيد لا يمكن ان نعد مواطن الغد، ومن الصعب جدا أن نوفر كل الشروط ليصبح المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعا متماسكا. بحيث ان القيم هي سر نجاح الشعوب، والقيمة الأساسية للشعب الكوري هو اذا "تقديس العمل"، و"تقديس" العمل هو المفتاح، وهو بناء المستقبل، وتوفير الشروط لاحترام الآخر، وهو بكل بساطة جعل أن اليوم مختلف عن الأمس، وأن الغد حتميا سيكون مختلفا عن اليوم. وهذه الأشياء هي التي جعلت من كوريا ومن الشعب الكوري والمواطن الكوري، لا يعيش سجين الحاضر، بل يعيش سجين ما يجب أن يكون عليه غدا وبعد غد، لماذا؟ لأنه لا يفكر في نفسه كمواطن وصل إلى مستوى معين من السن ومن تحمل المسؤولية، فهو يفكر ببساطة في أبنائه، وفِي الجيل الذي يليه. ومن جانب اخر، فالثابت ان ديمومة الشعوب مرتبطة أكيد بقدرتها على تربية الأجيال الصاعدة. وإذا لم نتحمل كامل المسؤولية فيما يخص تربية الأجيال الصاعدة، فمن الصعب جدا أن نفكر في المستقبل، وأن نضمن مستقبل مجتمعا، وهذا هو سر نجاح معجزة كوريا، واتمنى أن نستفيد من هذه التجربة لأننا في حاجة إلى بعضنا البعض.
أخيرا، اطرح السؤال، ما هي العلاقة بما أشرت إليه والتعاون في مجالات مختلفة؟، أنا شخصيا أعتبر بأنه بقدر ما يجب أن نبني اقتصادا قويا، بقدر ما نوفر الأدوات لتعزيز التعاون، التعاون هو تبادل، والتبادل لا يمكن أن يتم إلا في ظل الاستقرار وفي ظل الإنتاج وإنتاج الثروات وتنويع المنتوجات.
لذلك فان التعاون بين المغرب وكوريا هو تعاون يعرف في السنوات القليلة الأخيرة حركية قوية جدا على مستوى تبادل الزيارات حكوميا، وبكيفية خاصة على مستوى البرلمان بكيفية خاصة ما يزيد عن عشرين سنة تقريبا والزيارات متبادلة في كل الظروف منذ سنة 2000 إلى يومنا هذا، فالتعاون في عدة مستويات..
كوريا لا تملك موارد طبيعية، كوريا في كل ما له علاقة بالموارد الطبيعية فقيرة جدا، لكن ثروتها هم أنتم كعنصر بشري كطلبة وكطالبات، في مجالات مختلفة.
من جانب اخر فانه بدون تصنيع ليست هناك تنمية، الفلاحة مهمة جدة لكن دورها ومستقبلها يبقى مرتبطا بقدرة كل بلد على تصنيع الفلاحة نفسها. هذا الترابط بين ما هو فلاحي وما هو صناعي هو الذي كذلك جعل من العقل الكوري يبدع أشياء كثيرة حتى أصبحت كوريا في هذا المجال، لا أقول هناك اكتفاء ذاتي ولكنها قريبة جدا من الاكتفاء الذاتي. وهناك جانب آخر مهم جدا يجب التركيز عليه، وهو القدرة على الانفتاح وعدم التخوف مما يمكن ان يترتب على الانفتاح. فزمن العولمة هو زمن التبادل الحر، وكما أشرت 90 في المائة من الاقتصاد الكوري تأسس على أساس التبادل الحر، لذلك لا يجب أن نتخوف كثيرا من التبادل الحر، لكن التبادل الحر له مقومات علينا أن نوفر له الشروط، والقطيعة مع الماضي، وما تعيشه اليوم كوريا في اعتقادي الشخصي سببه الرئيسي القيم، وما اشرت اليه من تقديس العمل والاستثمار في العنصر البشري وأنتم أحسن مثالا على ذلك.
شكرا على انتباهكم. "