السادة الرؤساء الأعزاء،
الزميلات والزملاء،
السيدات والسادة،
عندما كُنَّا بصدد اتخاذ قرار بشأن المكان الذي نعقد فيه الدورة الثانية عشرة للجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط، كنا أمام عدد كبير من الاختيارات، إذ أن كل مدن المملكة المغربية، الكبرى منها على الخصوص، فضلا عن توفرها على بِنْياتِ استقبال من مستوى عَال، تُوفِّر الأجواء المناسبة لنجاح أشغالنا، فإنها تحتضن وتحافظ على إرْثٍ مُتوسطي وتتوفر على التجهيزات والجو الملائم لتيسير نقاش يتوجه إلى المستقبل ويُؤَسِّسُ على الإرث، الإرث الحضاري الفني والمتفتح والعقلاني. إنها تجسيد للإرث المتوسطي الذي يحافظ عليه المغرب، والذي ينبغي أن يُسْعِفَنا، اليوم، في جهودنا كي تستعيد المنطقة الأورومتوسطية إشعاعها وأدوارها، وبالأساس استقرارها.
وقد وقع الاختيار في النهاية على مدينة طنجة: فهي الحاضرة الأقرب الى أوروبا في الضفة الجنوبية لحوض المتوسط، إذ نتواجد على أقل من أربعة عشر كلم عن هذه القارة. إنها رمز انفتاح المغرب وبوابته إلى جزء أساسي من العالم: أوروبا، وهي المدينة التي أَلْـهَمَتْ كبار المفكرين والمبدعين من فنانين وشعراء وروائيين كما سحرت السياسيين أيضا، من مختلف أنحاء الدنيا، إنها المدينة الساحرة المجسدَةُ لهذا المغرب المتنوع. إنها جسر بين الجنوب والشمال وبين الشرق والغرب، وتَقَاطُعٌ الأطلسي والمتوسط اي ملتقى الطرق البحرية بين العالم القديم والعالم الجديد.
إنه لشرف عظيم، إذن، أن نستقبلكم في هذه المدينة / الرمز، وأن نرحب بكم آملين في أن تُـمَكنكم إقامتكم بالمملكة المغربية من التعرف أكثر على هذه البلاد المتوسطية التي كانت، وستظل، أرضا للقاءات والحوار والمبادلات مساهمة في بناء الاستقرار الإقليمي والعالمي.
السيدات والسادة،
يختزل المحور الذي اخترناه، بالتشاور مع مكتب الجمعية، ليكون موضوعاً رئيسيا في هذه الدورة طموحات الشعوب الأورومتوسطية، ولكنه يختزل بالأساس معضلات المنطقة الأورومتوسطية وانشغالات شعوبها ونخبها. ذلكم أن التنمية والديموقراطية والسلم في منطقتنا لا يمكن أن تتيسر إلا بانخراط المجموعة الأرومتوسطية والتزامها الجماعي من أجل مستقبل أفضل كما أن تلكم الأهداف ستظل صعبة المنال إذا هي لم تكن مسنودة برافعات ثقافية وبشرية وبقيم وأساسا بالحوار.
وقبل أن أعود إلى هذا الموضوع، أرى أنه من المناسب، بعد عُشْرِيَتَيْنِ من انطلاق مسلسل برشلونة، أن نستحضر التحديات المزمنة وتلك الطارئة التي تواجه المنطقة الأورومتوسطية.
السيدات والسادة،
قبل واحد وعشرين سنة تم إطلاق مسلسل برشلونة للشراكة الأورو متوسطية، بالضبط في نونبر 1995، في سياق نهاية الحرب الباردة وما ضَخَّهُ ذلك من آمال في بناء منطقة للسلم والاستقرار والرخاء المشترك "من خلال تعزيز الحوار السياسي والأمن والتعاون الاقتصادي والمالي والثقافي والاجتماعي". وبعد عِقْدين على انطلاق هذا المسلسل يَـجدُر بنا، كإطار برلماني للشراكة الأورومتوسطية، أن نقوم بقراءة جماعية لحصيلة هذا المسلسل، ونقارن بين الأهداف التي كانت متوقعة وما تحقق على الأرض.
وينبغي الإقرار في البداية، بأن تأسيس إطارنا البرلماني هذا يعتبر في حد ذاته مكسبا هاما للحوار الأورومتوسطي ولحشد الرأي العام بالمنطقة للدفاع عن المشترك بين شعوبها وعن القيم التي نتقاسمها. وكما تعلمون فإن جمعيتنا تعتبر ثمرة مراكمة حوار ونقاش برلماني انطلق بالأساس في نهاية 1997 بين برلمانيين من البرلمان الأوروبي وبرلمانيين أعضاء في البرلمانات الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي ونظرائهم في البلدان المتوسطية الشريكة للاتحاد.
وقد أسفر هذا الحوار عن تأسيس المنتدى البرلماني الأورومتوسطي في 27 و28 أكتوبر 1998 في بروكسيل ليقرر أعضاؤه المجتمعون في باري (جنوب ايطاليا) في 17 و 18 يونيو2002 في إطار الدورة الرابعة للمنتدى عزمهم تحويل المنتدى إلى جمعية برلمانية أورومتوسطية وهو المقترح الذي أقره المجلس الوزاري الأورومتوسطي بعد يوم واحد من توصله بتوصية في الموضوع من المشاركين في الدورة الخامسة للمنتدى المنعقدة بنالولي في 2 دجنبر2003 .
وتمت مأسسة الجمعية البرلمانية الأورومتوسطية في الدورة التأسيسية الأولى المنعقدة يومي 22 و23 مارس 2004 بأثينا، لتتحول في 2010 إلى مؤسسة برلمانية للاتحاد من أجل المتوسط.
وليس من باب الوطنية الزائدة، السيدات والسادة، إذا ذكرت بالدور الحاسم والأساسي الذي اضطلعت به بلادي في تأسيس هذا الذراع البرلماني للشراكة الأورومتوسطية، إذ كان مجلس النواب المغربي أحد المؤسسين الرئيسسين لهذا المنتدى وتولى رئيسه الرئاسة المشتركة للمنتدى مع رؤساء البرلمان الاروبي المتعاقبين آنذاك منذ إحداثه إلى حين تحويله إلى جمعية برلمانية، وكانت لبرلمان المملكة المغربية أدوار هامة وحاسمة في الإعداد المادي والقانوني لقيام المنتدى وبالأساس في إعطاء الدفع السياسي الضروري لمأسسة البعد البرلماني الأورومتوسطي وإرساء أسس جمعيتنا البرلمانية وإنجاز أدواتها القانونية وهيكلتها.
إنه عربون ودليل آخر على التزام المملكة المغربية من أجل قضايا المنطقة الأورومتوسطية، وتجذرها المتوسطي.
السيدات والسادة،
لقد تأسست الجمعية البرلمانية بأمل المساهمة في تحقيق الأهداف التي كانت وراء إطلاق الشراكة الأورومتوسطية. وإذا كان صحيحا أن هذه الشراكة حققت الكثير في مجال المبادلات الاقتصادية وفي المجال المؤسساتي، إذ انتقلنا في إطارها من اتفاقيات شراكة، إلى سياسة الجوار الأوربي PEV التي عززت مسلسل برشلونة من خلال مخططات عمل ثنائية، إلى الاتحاد من أجل المتوسط، فإن كل ذلك لم ينعكس على النحو المطلوب على أوضاع مواطنات ومواطني أغلبية بلدان جنوب وشرق المتوسط.
لقد كان الأمن والاستقرار أحد الهواجس الأساسية وراء إطلاق مسلسل برشلونة، إذ أن التنمية والديموقراطية والرخاء وجميع المكتسبات تظل مهددة، ما لم يتحقق الأمن. ومع كامل الأسف، بعد عشرين عاما تَعَاظَمَ التحدي الأمني في المنطقة، وأضحت منطقتنا تتصدر مناطق العالم من حيث عدد النزاعات التي تنضاف إلى النزاعات التي تَعْصِفُ بالمناطق المحيطة بالبلدان المتوسطية. فأكثر من نصف النزاعات الدولية والإقليمية والداخلية على المستوى العالمي، تعتبر منطقة المتوسط مسرحا لها. وفضلا عن أنها تعيق التنمية وتُدَمِّرُ مستقبل شعوب المنطقة وتزرع اليأس، فإنها المصدرُ والسببُ الرئيسي في تَحدي آخر أخطر ما فتئ ينتشر، ألا وهو التحدي الارهابي الذي يتمدد مهدداً الجميع ومُطَوِّراً أساليبه واستراتيجياته، ويتحكم في مجالات ترابية واسعة وفي إمكانيات مالية ومواردَ ومصادرَ تمويلٍ هامة ليس أَقَلَّها النفط وتجارة الممنوعات، ويمسك بترسانة هامة، من الأسلحة ويتوفر على شبكات تمكنه من ارتكاب أعمال وحشية في مناطق آمنة.
إننا أمام تحدي إرهابي من طبيعة خاصة، يتطلب تصديا جماعيا ومتعدد المداخل والآليات : آلية الأمن، والتربية والتعليم والتنمية وتجفيف المنابع وتسوية النزاعات والتصدي للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وتحصين وتقوية الديموقراطية.
السيدات والسادة،
لقد أفضت الحركات الاجتماعية التي عرفتها بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا في عدد من الحالات إلى تدمير ذاتي هائل وشامل، ووجدت الشعوب نفسها في حالة فوضى ووضع اللادولة، وخرجت القبليات والطائفية المقيتة والقاتلة من قُمْقُمِها، مما تسبب في دمار اقتصادي هائل وفي تفكك البنيات الاجتماعية، ووفر للجماعات الإرهابية والمجموعات المسلحة مرتعا خصباً.
وتسببت النزاعات المسلحة والعنف والانهيار الاقتصادي والاجتماعي في حالات نزوح جماعي داخلي وخارجي وفي تدفقات هجروية من شرق وجنوب المتوسط نحو أوروبا، إذ راح ملايين البشر، وما يزالون، يبحثون عن ملاذات آمنة وعن أسباب للبقاء والنجاة في أوروبا، مع ما لذلك من تداعيات على المجتمعات الأوروبية. وكما سبق أن قلت، فإن المشاهد المأساوية للأطفال والنساء والشيوخ وهم يستجدون فتح أبواب الأمل بفتح البوابات الحديدية وإزالة الأسلاك الشائكة، تُسَائِل الضمير الأرومتوسطي، قبل الضمير العالمي، وتضعنا أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية إزاء معاناة ملايين البشر وتلزمنا بالبحث عن جذور هذه المعضلات الانسانية.
ولقد، انضافت نزاعات مسلحة جديدة إلى أسباب الهجرة غير القانونية العابرة للحدود مما ضاعف من عدد المهاجرين ووسَّع المناطق التي يضطر الناس الى تركها اما بسبب الحروب او الجوع او البطالة او غياب الديموقراطية. وأصبحت بلدان كانت مجالات عبور بلدان استقرار، ومنها المغرب، الذي تبنى سياسة جديدة للهجرة ذات مضمون إنساني وبعد تضامني مع الوفاء بالتزاماته الدولية في محاربة الهجرة غير القانونية وهو ما يكلفه الكثير أمنيا وماليا وبشريا.
ومرة أخرى تواجه المجموعة الارومتوسطية تحديا مزمنا في تفاقم مستمر يتطلب إعمال سياسات تضامنية توفر الأسباب التي تجعل المهاجرين يستقرون في بلدانهم أي توفير الأمن والاستقرار ودعم الاستثمارات المنتجة للشغل وتشجيع الحكامة والديموقراطية والحفاظ على البيئة.
السيدات والسادة،
لقد تضافرت عدة أسباب في زيادة تأزيم أوضاع مواطني عدد من بلدان حوض المتوسط الذين يواجهون ظواهر أخرى طبيعية تتمثل أساسا في تدهور البيئة وآثار الانحباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض ويؤدون ثمن أعمال ليسوا بالضرورة مسؤولين عنها. فالحوض المتوسطي من أكثر المناطق تلوثا في العالم فيما يتم إنهاك التربة وتتعرض مناطق شاسعة للجفاف ويتمدد التصحر ويقسو الإنسان على الغابات التي تُدَمَّر مئات الهكتارات منها سنويا، فيما يتسبب التلوث في الأمراض التي تُثقِل كاهل الميزانيات العمومية ويتم إتلاف المياه التي ستصبح مصدراً آخر للنزاعات والصراعات في المستقبل. وفي هذا الصدد، تقع على المجموعة الأورومتوسطية، التي تحذوها أخلاق صيانة الحق في الحياة واستمرار الجنس البشري، مسؤولية الحفاظ على البيئة ووقف تدهورها واستغلالها على نحو مستدام وبحكمة وبمسؤولية.
وإنه لمن دواعي الفخر أن نجتمع اليوم في طنجة من حيث أطلق صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وفخامة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في شتنبر 2015 "نداء طنجة من أجل مبادرة تضامنية قوية لفائدة المناخ"،والذي يعكس الحرص على الحفاظ على البيئة وتوحيد الجهود لحث المجتمع الدولي على إيجاد أجوبة فعالة وناجعة ومسؤولة لمعضلات التغير المناخي.
في أفق الدورة 22 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة - الإطار بشأن التغيرات المناخية cop22 التي ستنعقد في مراكش في نونبر 2016 سيكون علينا كمشرعين أورومتوسطيين أن نحرص على إسماع صوت شعوبنا من أجل الحفاظ على البيئة ووقف تدهور المجالات الطبيعية وخفض نسب التلوث وتوريث كوكب أرضي وتقاليد خضراء للأجيال المقبلة، وأن نجعل من محور المحافظة على البيئة ومكافحة ارتفاع حرارة الأرض موضوعا مركزيا في اللقاءات والمؤتمرات البرلمانية المتعددة الأطراف.
ومن جهة أخرى علينا أن نحرص كمشرعين في بلداننا، على تحسين التشريعات التي تُلزم بالحفاظ على البيئة وتشجع الطاقة النظيفة وتيسر إنتاجها واستعمالاتها. وإنه لفخر كبير أن تكون بلادي في طليعة البلدان التي سارعت إلى إنجاز مشاريع استراتيجية في مجال الطاقات النظيفة هي اليوم محط تقدير دولي كبير. ولا شك أن شركاءنا الأوروبيين يقدرون كلفة ما الذي نقوم به ونشكرهم على دعمهم لنا في استراتيجياتنا في مجال الاقتصاد الأخضر.
السيدات والسادة،
على الرغم من حالة الفوضى واللادولة في بعض البلدان جنوب وشرق المتوسط، واستمرار نزاعات مزمنة في المنطقة، فإن حالات نجاح ونهوض عديدة تبعث الأمل في شعوب المنطقة. فقد تمكن الشعب التونسي الشقيق من تجاوز الصعاب التي واجهتها البلاد في مرحلة مفصلية من تاريخها، وتَـمكَّنَ من بناء مؤسسات تُشَكِّل ركيزة الاستقرار فيما نجحت الشقيقة مصر في تجنب عدم الاستقرار وأبان شعبها عن وعي كبير بمصالحه، وتحافظ المملكة الأردنية الهاشمية على استقرارها وتواصل مسيرة التنمية والبناء الديمقراطي على الرغم من الصعوبات التي يفرضها عليها الجوار المضطرب من كل الجهات. وفي خلفية هذا الإقليم تحافظ بلدان مجلس التعاون الخليجي على مسيرة التنمية والإصلاحات الـمتدرجة وتحافظ على استقرارها.
وإذا كان الأشقاء الليبيون قد نجحوا في تشكيل حكومة وحدة وطنية التي ندعمها بكل قوة، فإن المجموعة الأورومتوسطية مطالبة بتقديم الدعم الملموس للشرعية في هذا البلد الشقيق وتمكينها من بسط السيطرة على كامل التراب الليبي وبناء مؤسسات الدولة. ولست في حاجة إلى التذكير بدور بلادي في احتضان الحوار الوطني الليبي وجهودها من أجل استقرار هذا البلد الشقيق.
وعلى هذه الأرض التي تستضيفكم، تعطي المملكة المغربية الدليل القاطع على أن الديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية ودولة المؤسسات ضمانة أساسية ليس فقط للاستقرار ولكن للنجاح الاقتصادي والتضامن الاجتماعي والتحديث. وبفضل الإصلاحات الكبرى والعميقة التي يقودها ويرعاها جلالة الملك محمد السادس نصره الله نجح المغرب في بناء مؤسسات قوية وبناء ديمقراطية متأصلة في إطار دستور عصري جد متقدم يكفل حقوق وواجبات الجميع ويحقق الفصل بين السلط ويربط المسؤولية بالمحاسبة ويجعل البرلمان المصدر الوحيد للتشريع ويقضي بأن تكون الحكومة منبثقة من صناديق الاقتراع.
وكما تعلمون، فإن الحالة المغربية، ليست وليدة الصدفة، ولكنها تتأسس على مراكمة الاصلاحات، وعلى تقاليد سياسية متأصلة وعلى تعددية حزبية حقيقية وعلى طاقات مجتمع مدني حيوي، وعلى صحافة حرة، وبالأساس على مؤسسات تمتد في التاريخ، وفي صلبها الملكية ذات الشرعيات الروحية والتاريخية والديموقراطية.
السيدات والسادة الرؤساء،
السيدات والسادة،
لن نختلف في التقدير إذا اعتبرنا أن مستقبل المنطقة الأورومتوسطية وتحقيق الاستقرار والتنمية، لا يمكن أن يتم إلا على أساس السلم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تسبب الصراع العربي-الاسرائيلي–وسيظل يتسبب – في نزاعات أخرى وفي توترات جديدة وسيظل مصدراً للتعصب، ما لم يتم رفع الظلم التاريخي المسلط على الشعب الفلسطيني بتمكينه من حقه في العودة وفي دولته المستقلة وفي إنهاء الاحتلال الاسرائيلي لأراضيه كما لباقي الأراضي العربية.
إننا مطالبون أمام مختلف التحديات المطروحة على منطقتنا بإيجاد أجوبة واستراتيجيات مشتركة من المجموعة الأورومتوسطية في إطار الاتحاد من أجل المتوسط ومؤسساته، من أجل ضمان أمننا الجماعي ودَرْءِ المخاطر الـمُحدقة بنا. فمنطقة المتوسط ينبغي أن تضمن أمنها بذاتها. وما من شك في أن ضمان الاستقرار يستوجب اعتماد عدة مداخل مشتركة ومتشاور بشأنها وتتوجه بالأساس، إلى جذور المشكلات ومنشإ الـمُعْضِلات التي هي بصدد التحول إلى فوضى تتمدد كحريق يلتهم كل شيء.
وقبل أن نبحث عن سبل التصدي للتحديات التي أتينا على ذكرها وتسوية النزاعات والأزمات، ينبغي بناء سياسات للوقاية منها وتجنبها بالتصدي لجذورها وأسبابها، واحتواء المشكلات في بدايتها.
إننا لا نختلف في التأكيد على أن بناء دول موحدة قوية، قابلة للحياة والاستمرار، تعتمد الديموقراطية والمؤسسات وتكفل التعددية السياسية والثقافية، سيظل المدخل الأساس للاستقرار الإقليمي والداخلي. وبالتأكيد، فإنه لكي تكون هذه الديموقراطية قابلة للاستمرار لابد لها من رافعات اقتصادية ومن التنمية والاستثمارات المنتجة لفرص الشغل التي توفر بدورها الدخل الضامن للكرامة البشرية. وما من شك أن ذلك يحتاج في حالة المنطقة الأورومتوسطية إلى تحويل رؤوس الأموال من الشمال في اتجاه جنوب وشرق المتوسط، وإلى تحويل التكنولوجيا وجعل شعوب المنطقة تستفيد من المكاسب التقنية والعلمية. فشعوب المنطقة في حاجة إلى الإحساس بأنها جزء من هذا العالم بمكاسبه وثرواته وتقدمه الهائل.
ويحتاج ضمان استدامة الديموقراطية الى نخب منفتحة تحملها وتدافع عنها والى القوى السياسية التي تُرَسِّخُها، وإلى الشعوب التي تحميها وتحتضنها. وبالتأكيد فإن ذلك يحتاج بدوره الى الاستثمار في التربية والتكوين والتعليم. وفي هذا الصدد، توفر الشراكة الأورومتوسطية العديد من الإمكانيات والبرامج التي تحتاج الى التفعيل، كما تحتاج الجامعات والمعاهد العليا في جنوب المتوسط الى الدعم والتكوين المستمر والى ان تكون أداة جذب للأدمغة التي تهاجر نَحْو الشمال بحثا عن دخل أفضل وعن مناخات ملائمة للبحث العلمي. واستدراكا لذلك ينبغي توفير الحاضنات المؤسساتية للبحث العلمي في بلدان جنوب المتوسط في إطار شراكات علمية تيسر الاستفادة المشتركة من البحث العلمي والبحث من اجل التطوير ونقل التكنولوجيا وردم الهوة الرقمية بين الشمال والجنوب وتأطير الذكاء والمهارات الشابة التي تزخر بها بلدان الجنوب لتحويلها الى قوى تنتج قيماً مضافة. إننا في حاجة الى دمقرطة المكاسب الرقمية واستعمالاتها.
ويبقى الحوار الثقافي والحضاري أحد المداخل الأساسية التي من شأنها تيسير التفاهم واستعادة روح أثينا وغرناطة وفاس والقيروان والاسكندرية في علاقاتنا الاورومتوسطية درءا للتعصب والتشدد. وفي هذا الصدد، ينبغي استحضار الدور الكبير الذي تضطلع به مؤسسة أنا ليند في تيسير الحوار الحضاري وإثبات أَلاَّ صراع بين الحضارات، أو كما سبق لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، أن أكد منذ 2002 من أن "ما يعرفه عالم اليوم إنما هو صراع جهالات لا صدام حضارات".
السيدات والسادة الرؤساء،
الزميلات والزملاء الأعزاء،
السيدات والسادة،
تتطلع شعوب المنطقة، خاصة في جنوب وشرق المتوسط إلى أعمال ملموسة تعيد لها الأمن والاستقرار وتضمن لها الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتوفر لها الشغل الضامن للكرامة.
وبالتأكيد، فإن منطقتنا تتوفر على إمكانيات هائلة لتحقيق هذه الآمال. فنحن في إطار سوق يناهز عدد مستهلكيه 900 مليون نسمة، وهي تقع في وسط العالم وتقاطع الطرق البحرية، وتتوفر على موارد بشرية هائلة وعلى المهارات العالية، ولكنها في حاجة إلى الإرادة - والدفع السياسيين، وإلى أخذ التحولات الدولية التي يشهدها العالم وإعادة هيكلة العلاقات الدولية بعين الاعتبار.
وإذا كان الاستقرار يحتاج إلى دعم الديموقراطية والتنمية، فإنه يحتاج إلى بناءات إقليمية في جنوب وشرق المتوسط. وفي هذا الصدد ما أحوج المغرب الكبير إلى تفعيل اتحاده، الذي يُفَوِّتُ غيابه على المنطقة فرصاً تاريخية للإقلاع الاقتصادي والصعود إلى مَصَافٍ القوى الاقليمية الكبرى. وقد اثبتت السياقات الاقليمية الراهنة وتناسل الجماعات الارهابية أن بناء المستقبل يكمن في الاتحادات الكبرى وبين دول لها من العمق التاريخي والمشروعية ما يكفل لها الاستمرار والفعل الإيجابي في العلاقات الدولية. ولا شك أن عدداً من بلداننا جابه مخاطر الانفصال على تفكك الدول.
السيدات والسادة،
تواصل المملكة المغربية التي تستقبلكم اليوم مسيرة التنمية وترسيخ الديموقراطية وإنجاز المشاريع الانمائية المهيكلة. وتعتبر هذه الجهة التي تستقبلكم اليوم، نموذجاً لهذه الانجازات وللمصالحات التي رسختها بلادنا تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس.
وإذا كانت جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، هي جسر المغرب إلى أوروبا، من حيث تجهيزاتها الأساسية الاستراتيجية، فإن جهة العيون-الساقية الحمراء، وخاصة بفضل المشاريع الانمائية الاستراتيجية التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس في نونبر الماضي هي بصدد التحول إلى قاعدة للمبادلات بين الشمال والجنوب أي بين أروبا وباقي بلدان إفريقيا التي يوليها المغرب اهتماماً خاصاً في علاقاته الدولية الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والروحية إيمانا منه بضرورة ونجاعة التعاون جنوب/جنوب.
السيدات والسادة،
من بين ما يحتاج إليه بناء المستقبل المشترك لمنطقتنا، تحويل الاتحاد من أجل المتوسط إلى منظومة لبناء سياسات مشتركة والوقاية من الأزمات في سياق دولي مضطرب في ضوء التحديات الجديدة. إننا في حاجة إلى دعم الاستقرار وبناء الثقة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها واستعادة روح المتوسط وأفكار أرسطو وعقلانية ابن رشد ومنهج ديكارت.
أجدد الترحيب بكم وأشكركم على حسن الإصغاء.