Skip to main content

الرباط 11/10/1985 خطاب المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 1985-1986

11/10/1985

الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
أيها النواب المحترمون

حضرات السادة:

عادة وحسب مقتضيات الدستور تلتقي بكم مرة في السنة، الا أن الله سبحانه وتعالى أراد بمنه وفضله أن نلتقي بكم مرتين في هذه السنة، اولاهما حينما التقينا على تلك الأرض المباركة، أرض الصحراء المغربية بمدينة العيون.

ومنذ ذلك اليوم وأنا أتذكر ما قلته لكم أيها النواب المحترمون، وما قلته لشعبي من أنني ونحن جميعا في تلك الزيارة اكتشفنا مغربيا جديدا، اكتشفنا مغربيا مومنا أكثر ما يمكن أن يكون الإيمان، مومنا ما زال فتى في عنفوان شبابه وهو متسم بإيمان الكهول والعجائز، مغربيا كيفما كان مستواه الثقافي .والاجتماعي أصبح مشعبا بأنه هو وتراب الصحراء المغربية شيئ واحد، يفنى بفنائها ويحيا بحياتها.

طيب فاذا كان هذا النوع من المغاربة قد شب وانشق من هذه الأرض الطيبة، هذا النوع الجديد، ألا يجدر بنا حضرات النواب أن نجدد نحن كذلك أنفسنا في ميدان العمل، ونجدد أساليبنا في النظر إلى المشاكل لوضعها كما يجب أن توضع وتحليلها كما يلزم أن تحلل حقا، علينا نحن كذلك أن نطور أنفسنا ومنهجيتنا وتحليلنا، وكذلك أن نكبر أعيينا إن أمكن حتى نطل فوق حدود بلدنا على ما يجري في العالم، وما يجري في العالم لا يبعث على الاطمئنان.

وها أنتم منذ شهور رأيتم أن الموازين اختلفت، وان ما كان حلالا أصبح حراما، وما كان حراما أصبح حلالا، ها أنتم رأيتم أن ركائز الفضيلة الدولية أصبحت منعدمة، ومع الأسف انعدمت تلك الركائز ولم تخلق بديلاتها إلى الآن، ونحن بلد ننتمي إلى العالم الثالث، لا أقول: بلد في طريق النمو، فالمغرب ولله الحمد برصيده الماضي التاريخي الأصيل، وبعزيمته الآن ليس بلدا في طريق النمو، بل هو بلد يعد من العالم الثالث ولكن في قمة العالم الثالث، علينا إذن أن ننظر بعين جديدة ومقاييس جديدة إلى مشاكلنا الداخلية وإلى ما يجب أن نتحمله من اختيارات ومسؤوليات في الميدان الخارجي.

ولنبدأ بمشاكلنا الداخلية:

إن مما أفتخر به ومما تفتخرون به كلكم أنه منذ أن تربعنا على عرش أسلافنا الميامين في سنة ألف وتسعمئة واحدى وستين إلى السنة الماضية ضرب المغرب من جملة المقاييس التي ضربها، ضرب رقما قياسيا في استتباب وفي استمرار عملته وقيمتها، فالدرهم منذ 1961 كان دائما موازيا لقيمة الفرنك، وكان دائما يباع في الاسواق الخارجية بكيفية تجعل المغاربة فخورين بأن يكونوا يتعاملون بالدرهم.

فلهذا وهذا من مظاهر سيادتنا أريد أولا منذ الآن ـ وأعطي أوامري للحكومة كما أعطيكم توجيهاتي لمراقبة عمل الحكومة في هذا الميدان ـ أن نضع حدا نهائيا لانزلاق الدرهم، فيجب أن تبقى عملتنا هي عملتنا دون انخفاض، لأنها هي وجهنا في الداخل والخارج.

ثانيا: لا أريد أن يدخل المغرب في ذلك النادي الذي يواجه الآن ويقارع الصندوق الدولي، والبنك الدولي، فالمغرب له مشاكله وله نوعية حواره، وان كان لم يكن متفقا دائما مع صندوق النقد الدولي فانه وجد فيه مرونة وليونة وتفهما، فعلينا إذا أن نتساير مع الأحداث متشبثين بسيادتنا مالكين لقيود استعمالها وتصرفها ، علينا ـ بعد ما جدولنا ديوننا، وبعد ما وصلتنا كميات من الأموال ـ أن نحورها إلى دراهم، وأن نجعل منها الانطلاقة الاقتصادية التي ستجعل العمال يرجعون لعملهم، والدولة تؤدي ما عليها من ديون لدى المقاولين ولدى أرباب الأعمال حتى يمكن لهذا البلد أن ينطلق ابتداء من آخر هذه السنة، وأن ينطلق في جو من العمل والنشاط والبناء.

ثالثا: فتحنا منذ أسابيع الاقتراض لحاجيات الصحراء، وفتحناه فقط لصالح الأشخاص تاركين في معزل الأبناك والشركات مهما كانت استثمارية أو تأمينية أو غير ذلك.

فأنا أريد أن يفتح الاقتراض كذلك في وجوه الأبناك ، ودور التأمين، والشركات التجارية في الشهر المقبل ان شاء الله، وهذا سيمكننا من أن تخرج تلك الأموال المتراكمة في الأبناك لتزيد كذلك في القاطرة قوة، ولنقوم بأعمال بنائية وتجديدية، لأنه ليس من الضروري أن يكون التجهيز كله تجهيزا يتعامل فيه بالدولار أو الفرنك الفرنسي أو الدوتش مارك، فهناك تجهيزات أساسية وبالأخص في ميدان الفلاحة، التجهيزات الأساسية يمكن تغطيتها بالدرهم، وإذ ذاك يمكن للدولة أن تتوفر وهي قادرة على أن تتوفر على ملايير الدراهم، وأن تشرع في العمل والتشجير والبناء وفتح الطرق ومد القنوات، إذن أرى من الواجب أن يفتح هذا الاقتراض كذلك للأبناك والشركات وغير ذلك.

أخيرا كما تعلمون قررنا أن لا يكون هذا الاقتراض مفتوحا فقط للمغاربة والجالية التي هي في الخارج، بل أن يفتح كذلك في أوربا لدى دول ولدى أبناك أوربية ذات سمعة عالية، فهذه مجموعة من الأعمال ومن التدابير أولا عدم قطع الحبل مع المؤسسات الدولية التي تقرضنا مع المحافظة على سيادتنا، وعلى وجوب التفسير لها ضرورياتنا والحدود التي يمكننا أن نتمشى معها أولا نتمشى.

ثانيا: أداء أكثر ما يمكن أن يؤدى لجميع الشركات والمقاولات والناس الذين خدموا هذه الدولة حتى يمكن للمعامل والصانع أن تسترجع المشتغلين، وحتى يمكن لعجلة المغرب أن تكون عجلة دائرة مستمرة لا ببطئ ولا بسرعة خطيرة.

ثالثا: لا يمكن أبدا بحال من الأحوال أن نزيد في انزلاق عملتنا.

رابعا : فتح الإقتراض في وجه غير الأشخاص، إذا نحن قمنا بهذه الأعمال أمكننا طيلة السنة أن نجد الميادين التطبيقية التي يمكن أن تصب فيها هذه الاموال كلها لا لمحاربة البطالة أو نحوها، بل في أعمال بناء وتجهيز.

يجب أن نتشبث بمبدأين: مبدأ التقشف، ومبدأ عدم افقار الناس، التقشف شيئ، وافقار الناس شيئ، ويمكن للانسان أن يعيش في جو من التقشف والناس و لله الحمد في سعة وفي خير وفي طمأنينة.

هذه حضرات المنتخبين هي بعض الأفكار الأساسية التي أريد أن تنكبوا عليها في هذه الدورة ، لأنكم ستدرسون القانون المالي للسنة المقبلة.
ولكن لا يمكن أن تكون دراساتكم، حكومية كانت أو برلمانية، ذات جدوى أو فعالية إلا إذا نحن أعطينا للحوار معناه الحقيقي، وأعطيناه كذلك إطاره الحقيقي، فالحوار يقتضي قبل كل شيء من المتحاورين أن يكونوا متفقين على موضوع الحوار، هذه مسألة ضرورية، فإذا كان الاتفاق على موضوع الحوار منعدما ( أحدهما يغرب والآخر يشرق ) إذ ذاك وجب أن يدخل كل من المتحاورين ميدان الحوار وهو يعرف أن له اختصاصات وله واجبات وعليه كذلك واجبات.

أخيرا نرجو من الحكومة والأحزاب التي تشاركها في العمل أن لا تركب بنا دائما سفينة التفاؤل المبدئي، كما أرجو من المعارضة أن لا تزج بنا في اعصارات التشاؤم المبدئي، علينا ان نكون امة وسطا كما قلت لكم دائما، ولا يمكننا ان نعالج مشاكلنا وقضايانا إلا إذا كنا ـ حينما نتحاور ـ نتفق على موضوع الحوار، فلا نشرق ولا نغرب، فإذا نحن عرفنا بالضبط ما هي وسائلنا وإلى أين يمكن أن يصل بنا الحوار، خطونا خطوات إلى الأمام ولكن على أن لا يصل بنا ذلك الحوار إلى باب مغلق.

وفي هذا المجال الدولي وفق الله سبحانه وتعالى هذا البلد الكريم فانعقدت على أرضه قمة الدارالبيضاء، وخرجت بنتائج ذات فضيلة اسلامية.
مؤتمرات ومؤتمرات، آخرها كان بالدار البيضاء المؤتمر الطارئ، وكان البعض الذين تغيبوا يظنون أن ذلك المؤتمر الطارئ سيخرج بالعرب متفككين منقسمين، فإذا به يخرج ولله الحمد بنتائج ذات فضيلة اسلامية .( وان طائفتان من المومنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما ) ، فالأول مرة في تاريخ المؤتمرات انبثقت عن مؤتمر الدار البيضاء الطارئ لجنتان للتصالح ولاصلاح ذات البين بين الأشقاء المتخاصمين، وقد سارت ـ ولله الحمد ـ اللجنة الأولى ـ بين سوريا والأردن، وبين سوريا والعراق ـ خطوات مباركة، واللجنة الثانية التي ستصلح إن شاء الله الأحوال بين العراق وليبيا ستتحرك في أقرب وقت ممكن ، أرجو الله سبحانه وتعالى أن تنال من النجاح ما نالته التي سبقتها.

هكذا كذلك سيمكن أن تخططوا للعمل الدبلوماسي المغربي برنامجه وطريقته بكل هدوء واطمئنان، ويجب أن تعلموا أن السياسة المغربية هي بيدنا، يمكن في كل وقت وحين أن نقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونقف هنا ولكن السياسة المغربية العالمية يجب ان لا تتسم بنزواتنا وخصوماتنا واحلافنا، يجب ان نطرحها بارادة، وبكيفية علمية متجردة عن كل انتماء او انتقام أو انعزال.

لذا سيواجه المغرب في هذه السنة وفي السنة المقبلة كذلك مشكلة صحرائه، ومشكلة صحرائنا هي مشكلة ذات وجهين، فبالنسبة لنا ليس هناك مشكل، فالصحراء مغربية وستبقى مغربية، إلا أن هذا الوضع إذا كان يريحنا ويطمئننا فهو لا يلزم خصومنا من الناحية القانونية والدولية، ولهذا علينا أن نسعى جادين كل الجد لاقناع المجتمع الدولي بصحة ملفنا وبمشروعية مطالبنا، وكنت سأتوجه إلى هيأة الأمم المتحدة ، ولكن نظرا لمناخات واعتبارات وعناصر، قررت أن أرسل خطابي شخصيا إلى هيأة الأمم المتحدة وسيلقيه نيابة عنا وزيرنا الأول، ولو كان ولي العهد قادرا على السفر لارسلناه هو بنفسه، ولكن نظرا لمرضه فسينوب عنا وزيرنا الأول، وسيصحبه وفد مهم، وسيلقي كلمتنا من أولها إلى آخرها بين قوسين، بمعنى منذ أن يقول : فخامة الرئيس إلى أن يقول : السلام عليكم، فهو ليس إلا خطاب ملك المغرب، حتى يمكن لما صرحنا به وقلناه أن نصبح ملتزمين به، وأن نضع الجميع أمام مسؤولياته اليومية والمستقبلية.

لي اليقين ـ ايها النواب المحترمون ـ ان ما قلته لكم شيئ نفذ إلى قلوبكم وأذهانكم، نعم تطرقت اليوم إلى الأرقام وإلى التوجيهات الاقتصادية والمالية، وإن كنت شخصيا لا أتوفر على التكوين اللازم لهذا الميدان الذي هو جاف، ولكن أعتبر شخصيا أن الأرقام والتوجيهات الاقتصادية ليست قبل كل شيئ الا مكيفة ورهن اشارات القرارات السياسية، وحينما أقول السياسية لا أقول السياسة السياسية، حينما أقول السياسية أعني بها اللفظ الذي نجده في القاموس: ساس الأمور بمعنى دبرها وادارها وسيرها، يومه وغده وفيما بعد غد، فتوجيهاتي وأوامري الاقتصادية والنقدية ليست إلا أوامر وتوجيهات سياسية من ساس يسوس.

سياستنا اريد أن يتنفس المغرب.

سياستنا اريد ان أرى الناس مشتغلين في المغرب كله.

سياستنا اريد أن أرى المغرب ورشا من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، فضميرنا مرتاح، وقد قمنا بالتزاماتنا ازاء الذين كان يخاطبوننا وهو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وقمنا بالتزامات مرات بارتياح و اخرى على مضض.

وصلنا إلى حد لا يمكن تجاوزه، ولكن مازلنا متفتحين وما زلنا أصحاب نيات وإرادة حسنة، في إطار سيادتنا واحترام درهمنا، هذا شيئ اريد أن تعلمه الحكومة، وأن تكونوا مراقبين عليه أنتم البرلمانيون، سواء كنتم في الحكومة أو في المعارضة.

أخيرا لا إفراط ولا تفريط، لا تفاؤل اكثر مما يجب، ولا تشاؤم أكثر مما يجب فالدنيا هي مشكلة تلو مشكلة، وهناك كيفيتان لحل المشاكل، إما أن يحاول المرء أن يجد حلا لكل مشكل، وهذا سيضيع فيه الوقت وأما أن يتأخر شيئا ما ليرى المشاكل في حجمها ونوعها ويحاول أن يقسمها إلى أجزاء لا إلى آلاف مشاكل، بل إلى جزء أو جزئين أو ثلاثة أجزاء بنوعية كل واحدة منها، ويجد حلا لهذه المجموعة وآخر لهذه المجموعة وهكذا، إذ يمكنه في ظرف ثلاثة أشهر أن يجد حلا لمشاكل مبوبة، الشيئ الذي لا يمكنه أن يجده إذا أخذ مشكلا مشكلا كحبات هذه السبحة.

أرجو الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وجدت قلوبا واعية وآدانا صاغية، ولا يمكن أن يتصور لي غير ذلك، لأنني جئت في طبقة من الأجيال التي عاشرت من هو أكبر مني سنا، وتعرفت على من هو أصغر مني سنا، وكلنا الأكبر في السن والمتوسط والأصغر صهرنا في مقاومة واحدة، وفي نضال واحد، وكلنا نريد لهذا البلد ما سوف يريده الله سبحانه وتعالى له لما اظهره عليه من جمال وما أغدقه عليه من نعم، يريد الله سبحانه لهذا البلد أن يبقى بلدا آمنا مطمئنا مسلما فاضلا سائرا على نهج أجداده، متحليا بحلية القرآن متصفا بالصفات النبوية التي تحث عليها سنتنا المحمدية، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يحقق الآمال، وأن لا يخيبنا وأن يجعلنا دائما كلنا التشريعيون والتنفيذيون والخديم الأول لهذا البلد، عند حسن ظن الملايين من المغاربة الذين هم يعيشون اليوم والذين هم سيزدان بهم بلدنا ان شاء الله في الأجيال المقبلة.

والسلام عليكم ورحمة الله